مواجهة خيارات مصيرية: السودان صار فى مواجهة اسئلة يتحدد على الاجابة على كل واحد منها مستقبل طبيعة كيانه شعبا ودولة ومجتمعا لا نظام الحكم فقط. الى اين المسير؟ والمسير الذى يجرى التساؤل بشأنه ليس مجرد عبور نهر او بحر، وليس محاولة معرفة أي طريق من بين طريقين نختار، بل هو سؤال عن رأي وموقف وتحديد اتجاه من بين بدائل متعددة متنوعة المخاطر يمثل كل منها خيارا مصيريا، والاشكالية هى ان كل اجابة على كل سؤال مصيرى لا يملك فيها اى طرف داخلى فرض تلك الاجابة على الآخرين، اذ الكل مشتبك فى صراع بات اشد تعقيدا من اية مرحلة سابقة. هل يسير السودان الى مواجهة حاسمة مع الدول الغربية؟ أم يسير فى طريق المساومة معها. هذا أحد الخيارات المزدوجة التى ترتبط بتوازنات قوى وصراعات داخلية، ولا ترتبط فقط بتوجهات فى السياسة الخارجية. واذا كانت القوى الخارجية ذات مصالح وتوجهات متعددة بما يجعل الخيار الكلى من قبيل التعميم، فإن الأوضاع الداخلية هى الأخرى ذات خيارات متعددة فى الرأى والعلاقات مع القوى الغربية، بما يجعل المواجهة مع الغرب حالة داخلية معقدة او بما يجعل اعتماد هذا الخيار أمرا مأزوما، حيث لا قدرة على تحويل طاقة المجتمع وفق هذا الخيار. هل يبقى السودان موحدا؟ هذا خيار مصيرى أساسى «آخر»، لكن الامر لا يتعلق بالرغبات ولا بالفهم الصحيح لطبائع الامور ومقتضيات المصلحة، بل يرتبط بمرارات تاريخية وإرادات وصراعات يتداخل فيها الدور والنفوذ الخارجى مع الوضع الداخلى المضطرب بما يحول دون الوصول الى اتفاقيات بين الاطراف الداخلية ينمى اتجاهات وحدة السودان. وهل يتجه السودان نحو الانزلاق فى حالة من الفوضى؟ المؤشرات المتوافرة تؤكد أن ذلك أمر تتكاثر من أجل حدوثه سلوكيات وتصرفات قوى داخلية وخارجية من كل حدب وصوب، حتى يمكن القول إنها تكاد تصبح قادرة على تشكيل اتجاه عام، وفى مواجهتها تبدو العوامل المانعة آيلة الى حالة تآكل. وهل يتفتت السودان؟ حتى الآن، الأمر شبه المحقق هو أن الجنوب صار صاحب القرار فى الانفصال عن الشمال، بل صار ورقة تهديد لتغيير هوية السودان، اذ صار القبول باستمرار الوحدة مرتبطا بتغيير الهوية.. تحت عناوين القبول بالتعددية ورفض الهوية العربية او الإسلامية للسودان واعتبارها حلا عنصريا وفعلا قسريا.. الخ. والبادى أن لعبة قطع الدومينو تنتظر لحظة انطلاق حركة الانفصال فى الجنوب او الضربة الاولى لوحدة السودان من هناك. وكل ذلك وغيره، بات يطرح على السودان ما يعرف بالخيارات المصيرية. والخيارات المصيرية هى تلك الانواع من الاختيارات التى تغير اوضاع الدولة والمجتمع من حالة الى اخرى مغايرة او مختلفة كليا. اي الاتجاهات يختار السودان؟ وهل يمكن من الاصل اطلاق هذا السؤال؟ هل يعيش السودان اوضاعا تسمح له بالتقليب فى هذا الاختيار او ذاك ليتحرك فى الاتجاه الذى يختاره. السودان فى مفترق طرق الخطر فيه هو تعدد وتنازع الارادات حول اى اتجاه يمكن السير فيه. تفتيت السودان، التفتيت يختلف عن التقسيم، فالتقسيم يأتى وفق إرادة أو عقب صراعات وحروب تجرى بين اطراف محددة ينتج عنها ان تصل تلك الاطراف الى حل «الافتراق» بين مكونات الوطن الواحد، لكن التفتيت امر آخر، إذ هو تعبير عن خروج الصراع عن سيطرة «كل المتصارعين»، بما ينتج عنه تحول الصراع الى حالة فوضى شاملة، تنتج سودانا آخر لم يكن حتى فى مخيلة اطراف الصراع واهدافها. والتفتيت يمكن أن ينتج عن عدم قدرة طرف من الاطراف على حسم الصراع الداخلى لمصلحته، اذ ان ضعف الطرف «الاقوى» يجعل سقوطه فجأة مما يشيع مناخا من الفوضى يولد حالة من الخوف والهلع بما يجعل المناطق او القبائل او المجموعات والثقافية والطائفية لا تجد سبيلا «للنجاة» سوى تلاحمها والتخندق والتقوقع حول نفسها، لتسيير أمورها والمحافظة على نفسها حتى لو لم يكن ذلك فى مخططاتها او اهدافها؟ والحال ان ثمة احتمالا بأن تضعف قوة الدولة فى المركز فى السودان من كثرة التضارب والتطاحن الداخلى ولشدة الضغط الخارجى، فيصل مركز الدولة الى حالة من الفوضى والاضطراب وتغييب القدرة على فرض النظام والقانون فى مختلف عموم مناطق سيطرة الدولة، أو لنقل إن الدولة تتوقف عن أداء دورها التنفيذى المنظم لكل شؤون الحياة بما يدفع مختلف التكوينات للنزوع لاداء شؤونها بأنفسها ووفق حالة من الانغلاق على مكونات أضيق تصبح معادية للاطراف الاخرى فى ذات الوطن. والحاصل الأخطر فى السودان الآن هو ما يجرى من اضطراب فى مركز الدولة «الخرطوم» حيث القوى السياسية «الشمالية» المعارضة للحزب الحاكم وصل بعضها الى درجة كتلك التى عليها حزب المؤتمر الشعبى «بقيادة د. حسن الترابى» تأييد إجراءات المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس الدولة وجهاز الدولة التى هى الأهم الآن لاستمرار وحدة السودان وعدم تفككه بسبب اوضاع التفلت والانقسام والتمرد الجارية فى نواحٍ متعددة. واذ يمكن القول إن مثل هذا «الانشقاق» داخل مركز الدولة - بين القوى الشمالية حادث منذ زمن بعيد، ومن ثم لا تأثير له بحكم التجربة والزمن، فإن الامر مختلف الآن، إذ أن جناحا كان موجودا داخل جهاز الدولة هو من يقف ضد رئيس الدولة وحزبه داعما الضغط الدولى الموجه الى رأس الجهاز التنفيذى، كما نحن أمام صراع يضعف «الوحدة الفكرية والسياسية» للقسم «الشمالى» من السودان، الذى قام على بناء جهاز الدولة السودانى بعده، حيث أن اندلاع تمرد الجنوب فى أغسطس 1955م قبل تشكيل واستقلال السودان بشهور قد فرض بناء دولة بكوادر شمالية فى مختلف المجالات العسكرية والسياسية والادارية والاعلامية والقضائية.. الخ. لقد كان العامل الاساسي فى اضعاف «مركز الدولة»، وتمكين متمردى الجنوب من العودة الى النشاط القوى المهدد للدولة هو الانقسام الذى حدث بين القوى السياسية الشمالية بعد ثورة الانقاذ، اذ تحولت بعض احزاب الشمال الى دعم التمرد على الحكم المركزى بعد الانتقال للعمل من اريتريا بما شكل تهديدا خطيرا لاستقرار السودان. ووقتها كان «حزب المؤتمر الوطنى وحزب المؤتمر الشعبى حزبا واحدا داعما للسلطة والدولة والحكم المركزى بما حافظ على وحدة «مركز» الدولة، غير ان استعادة العلاقة بين الاطراف الشمالية وبعضها البعض قد جاء مترافقا مع انقسام فى داخل «قلب الحكم»، اذ انقسم الحزب الحاكم الى حزبين، وهو ما تتعمق آثاره المدمرة فى المرحلة الراهنة، بدخول حزب المؤتمر الشعبى على خط المساندة لقرار المحكمة الجنائية الدولية. وفى ذات الوقت فإن الضغط على المركز لم يضعف او يقل داخل السودان من معظم الجماعات والجهات. وكل ذلك هو ما يهدد بالفوضى الشاملة فى السودان، خاصة اذا سارت المؤشرات التى جرت فى الجنوب فى ذات السياق المتواتر حاليا من تحول نحو صراعات داخلية كما جرى أخيراً، اذ تقاتلت قبيلتان على مناطق المراعى فقط فسقط منهما مئات القتلى بما مثل اشارة مهمة على انتقال مرض التقاتل القبلى ليصبح شاملا فى مختلف المناطق وبين مختلف الاطياف. تفكيك السودان التفكيك مختلف عن التفتيت اذن. والتفكيك هو صيغة تقع ما بين الصراع والضعف والاتفاق خلال حالات الصراع الداخلى بين اطراف محددة متقاتلة او وفقا لحالات معينة من توازنات القوة للوصول الى استقلال او انفصال بعض اجزاء الدولة عن بعضها الآخر دون قدرة من الدولة على استعادتها، والذى هو امر فى اغلب الاحوال يأتى مرتبطا بضغوط ودور دولى او لتحقيق مصالح خارجية، الحالة اليوغسلافية هى نموذج «عميق الدلالات» لمثل هذا التفكيك الذى جرى «اقراره» من خلال دور دولى داعم له. فقد شهدت يوغسلافيا حالة تقاتل وحرباً اهلية على اساس الدين والعرق لم تتمكن فيها قوة الدولة من حسم المعركة رغم كل المجازر والمذابح التى ارتكبتها. وجاء التدخل الدولى الخارجى «سياسيا وعسكريا» ليقر التقسيم والتفكيك دون قدرة «مركز الدولة» على استعادة ما فقدته الدولة. ومن بعد جرى نفس الأمر خلال حرب واستقلال كوسوفا. والقضية هنا ليست من المخطئ ومن المصيب، ولكن أصل الفكرة هو أن يوغسلافيا قدمت نموذجاً يجمع بين «التقاتل الداخلى» والدور الخارجى الذى انهى الصراع وفق صيغة التفكيك، والآن يبدو السودان نموذجا مهما يسير فى هذا الاتجاه او لنقل انه سار بالفعل فى ذات الاتجاه فى الجنوب، وبات معرضا لخيار مصيرى آخر فى دارفور. وفى الجنوب جرى التقاتل طويلا من الخمسينيات وحتى مطلع الالفية الثانية، حتى انتهى الامر الى توقيع اتفاق اطار تمكن من خلاله الضغط الدولى او الغربى من فرض صيغة الانقسام بين الشمال والجنوب وفق صيغة عقد استفتاء طوعى للجنوبيين يختارون فيه بين اعلان دولة جديدة او البقاء داخل اطار السودان الحالى، وإذ يتواصل الصراع الآن فى دارفور ويجرى افشال كل محاولات الوصول الى حل عبر المفاوضات والاتفاقات، فالمعنى العام الذى يمكن تأكيده هو أن الرافضين للاتفاقيات واستمرار التقاتل انما يسعون للوصول الى الانفصال، اذ هم يحاولون انهاك الدولة السودانية الى درجة تجعلها تقبل بخيار الانقسام بنفس اسلوب ومنهج الجنوب. لقد شاهدنا من قبل كيف كانت الولاياتالمتحدة تسعى إلى تهيئة اوسع الفرص لهذا الانقسام عبر محاولة فرض حظر دولى للطيران الحربى السودانى على مناطق اقليم دارفور، كما لا يزال الدعم الغربى الخارجى موصولا وممتدا لاطراف كثيرة من المتمردين هناك لافشال كل محاولات المصالحة عبر الحوار، فى الوقت الذى يتصاعد فيه الضغط على مركز الدولة بما يجعله فى نهاية المطاف مستعدا للتسليم بانقسام وانفصال دارفور. التضحية بالرئيس: غير أن المتابع لأزمة الخيارات المصيرية للسودان يجد ان الضغوط صارت تتكثف رويدا رويدا على رئيس الدولة السودانية ورمزها الرئيس عمر البشير، ليصبح هو ذاته احد الخيارات المصيرية فى لعبة محكمة الجنايات الدولية. ويبدو الامر ضغطا على الرئيس للموافقة على خيار مصيرى بتخفيف يد الدولة عن الموقف فى دارفور بما يعزز فكرة الانفصال والتقسيم. ويبدو الامر فى وجه آخر محاولة لارباك مركز الدولة واشاعة حالة من الاضطراب والخوف بين كوادره واجهزته، غير أن الاخطر انها محاولة لتغيير النظام بالضغوط الخارجية على طريقة ما جرى فى يوغسلافيا السابقة، اذ عقدت مقايضة سُلم بمقتضاها الرئيس بعد خلعه الى المحكمة الجنائية الدولية مقابل قبول النظام الجديد ورفع العقوبات الدولية المفروضة على البلاد، أى أننا امام محاولة دفع الاطراف الداخلية للتضحية بالرئيس من أجل استمرار النظام وقبوله فى المجتمع الدولى، ليصبح بقاء الرئيس نفسه ومصيره خيارا مصيريا. وقد يتصور البعض ان الامر غير ممكن، لكن ذلك حادث بالفعل الى درجة ان بعض من فى الغرب صار يتداول لائحة او قائمة بالاسماء التى يمكن ان تحل محل الرئيس البشير حال قبض عليه او اذا تقرر تسليمه. لقد اصبح بقاء الرئيس البشير فى الحكم خيارا مصيريا. الخيار العربى: والبادى حتى الآن، أننا امام موقف للدولة السودانية يعتمد من التقدم والتراجع فى انتظار تحسن الأوضاع الدولية لتمكين النظام من الاستمرار فى مقدرته على منع محاولات تفكيك الجزء الصلب من مكون المجتمع والدولة السودانية. لكن الاشكالية هى أن الآخرين اقوياء فى التأثير على الوضع الداخلى واستقرار الحكم، وفق خيارات اخرى يجرى العمل على اساسها سواء على يد من يواصل المكايدة مع النظام، الى درجة الموافقة على اطاحة رأس الدولة، او من يرتبط مباشرة بالقرار الخارجى فيواصل القتال والصراع للوصول الى درجة التفكيك والتقسيم. وهنا يبقى من المهم القول بوضوح إن ثمة ضرورة لدور عربى داعم للدولة السودانية من جهة وساعٍ بكل الجدية نحو تجميع القوى الداخلية فى السودان من جهة اخرى. وان مثل هذا الدور العربى مطلوب للدفاع عن نظم الحكم فى كل الدول العربية، اذ لو تفكك السودان لصار سابقة تقبل التعميم فى كل الدول العربية.