ما الذي يمكن أن يتبادر إلى ذهن القارئ العربي حينما تقع عيناه على عنوان من قبيل: (من كاتب ياسين إلى رئيس أمريكا «… مقعدٌ كهربائي للرئيس نيكسون أيضا!»)؟.. قبل الإجابة أشير إلى أن كاتب ياسين يمثل إحدى الحالات الخاصة والنادرة في الحياة الثقافية في الجزائر، إحدى الحالات التي امتزج فيها الموقف الفكري بالممارسة العملية للحياة في أبعادها الذاتية والاجتاماعية الثقافية والسياسية والقومية. وللتدليل على هذا المذهب أكتفي بذكر ثلاثة مواقف فقط لصاحب «نجمة»: 1)- موقفُه من الكتابة باللغة الفرنسية: حينما أعلن وهو يجيب على سؤال أحد الصحفيين الفرنسيين في 1956 بأن : «الفرانكفونية هي آلة سياسية من صميم النزعة الاستعمارية الجديدة لا تعمل إلا على تأبيد استلابنا. غير أن استخدام اللغة الفرنسية لا يعني أننا أعوانٌ أو عملاء لقوة أجنبية. وإنني لأكتب بالفرنسية لأقول للفرنسيين إنني لست فرنسيا»؛ 2)- موقفُه من الحرب الفرنسية ثم الأمريكية على فييتنام، وقد سجل ذلك في كتابه «الرجل ذو النعل المطاطي»؛ 3)- اختياره المغامرة بالانتقال إلى الكتابةَ بالعامية الجزائرية للتواصل مع أوسع شريحة من المواطنين، على الاستمرار في طريق المجد [ربما لأنه مجد المغشوش -في رأيه]، المجد الذي عبّدَ لنفسه الطريق إليه بإبداعه في اللغة الفرنسية. أعود فأذكّر مرة أخرى: ما الذي يمكن أن يتبادر إلى ذهن القارئ الجزائري المعرب حينما يقرأ عنوانا نصّه: (من كاتب ياسين إلى رئيس أمريكا «… مقعد كهربائي للرئيس نيكسون أيضا!»)؟.. حرب أمريكا على فييتنام (1964-1975) على الأرجح. ثم ماذا؟! كاتب ياسين يراسل نيكسون في الموضوع؟! ماذا يقول له؟ الشيء القليل... فلربما لم «يغادر» ياسين الشيء الكثير بعد «الرجل ذو النعل المطاطي» في موضوع فييتنام وغيره كقضايا الجزائر قبل ذلك، وفلسطين «المغدورة» فيما بعد… ربما هي خطرةُ إبداع «ياسينية» فقط، يأتيها الشاعر والروائي والمسرحي والمثقف المبدئي، والعضوي - بتعبير غرامشي- وهاهي ذي أمامنا مفصحةٌ عن نفسها ونفسِ الأديب، تكاد لا تنطفئ لها روح. وأما الرسالة في نصِّها وموضوعِها، فقد كتبها متوجها إلى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، بعد عودته من فييتنام في 1970، ونشرت بيومية «المجاهد» الصادرة بالفرنسية في الجزائر في 30/12 من السنة نفسها. وهي تشكل دليلا آخر على مدى التزام هذا الكاتب الجزائري الكبير بالدفاع عما يراه حقا وعدلا، بصرف النظر عن موقع ذلك الحق: قريبا أم بعيدا في الزمان، هنا في الجزائر أم على تخوم بحر الصين في المكان. دليلا آخر على شجاعته الأدبية وإصراره على إبداء موقفه وقول كلمته. الرسالة: سخرية لاذعة من غرور الأمريكان وعجرفتهم وسقوطهم الأخلاقي في حرب هي من أقذر الحروب في القرن العشرين، مقابل إعجابٍ كبير بصمود أبناء العم هوو؛ إعجابٍ يتجلى لكاتب ياسين في أنصع صوره من خلال مشهد أولئك الأطفال الذين ينخرطون في ممارسة تفاصيل طفولتهم البريئة بعنفوان، لكنّهم غير غافلين عما يحدث حواليهم. هؤلاء الأطفالُ الذين يحسن أن يعرف نيكسون لمحة خاطفة من يومياتهم منقولة إليه بقلم كاتب جزائري هو كاتب ياسين. نص الرسالة مترجما إلى العربية: «سيادة الرئيس، وأنا أجول في الشارع، رأيت فتاتين صغيرتين تمهدان الأرض بأيديهما، وبقربهما أطفال يلعبون بالكريات... هؤلاء الأطفال يعرفونكم، سيادة الرئيس. سيادة الرئيس، لقد قدمتم إلى فييتنام منذ عشرين سنة، قدمتن إليها كسائح أمريكي، أي في رحلةِ [هكذا] تفتيشٍ عسكرية. تعرفون دون شك طريقَ ديان بيان فو، وسمعتم أحاديثَ عن الجنرال جياب. هذا الاسمُ «البربري» الذي يدوي كطلقة بندقية عند آذانكم المتحضرة. وهذا «الفام فن دونغ»! ليس اسما إنه زخة رشاش. هؤلاء الناس كان ينبغي دحرهم، وتلقينهم في نهاية المطاف، نمطَ الحياة الأمريكية. فلقد آن الأوان في نظركم لاستخلافهم. ومجلبةً للسخرية، تجدون، كلَّ هؤلاء الجنودَ الفرنسيين الصغار..! لكنّ فرنسا قد ركبت رأسها، ولم تكونوا أنتم بعد إلا نائب الرئيس. واليوم تنجزون مطمحَكم [أو مطمعَكُم] الأسمى. إنكم رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية، والحرب مستمرة تحت إدارتكم. إنكم لا تفعلون غيرَ التمسكِ بميراثكم الإمبريالي. لكن أين الانتصارُ، سيادة الرئيس؟ ثم كيف يحدثُ حتى إن مهامكم الساميةَ تحوّلكم إلى ذِروة العصبية؟ هل هي مقاربة «تيت» التي تعكر صفو أحلامكم؟ آه... هؤلاء الفييت بفرقعاتهم! ما زالوا يتجرأون فيرفعون هاماتهم! إنهم يحسبون أنهم في ديارهم في هانوي مثلما في سايغون! ألا يتخلّون بعد عن العام الجديد لدى السفارة الأمريكية؟ إن الحلمَ ليتحوّل كابوسا، إنكم في تمام اللاانسجام؛ فمن جهة تناقشون وتزعمون سَحب وحداتكم بالتدريج، مع الإبقاء على توقّع الاحتفاظ ببعض مئات الآلاف لحماية مرتزقتكم. ومن جهة أخرى تبادرون بالإثارة الجماهيرية بالتهديد القديم بالتصعيد.. إنكم باندحاركم جنوبي فييتنام، تهاجمون سهل الجِرار. ينبغي أن تكونوا على يقين من أن هذه الجِرارَ قد دُسّ فيها السّم. إن المقاومين اللاووس يحكمون قبضتهم دائما على السهل، وجنودُكم محاصرون أمام لوانغ برابانغ، في وقت تقررون فيه اجتياح كومبج، مُرغِمين أميرا أعزلَ على الالتحاق بساحة القتال... وهكذا، فثلث البلاد صار محررا. برغبتكم تقسيم فييتنام بالقوة وحّدتم بين شعوب الهند الصينية. إنه لعمل رائع حقا! ليس هذا كلَّ ما هنالك؛ إن أطرف الحماقات التي ارتكبتم تتمثل في إرسالكم أرمادة جوية إلى شمال فييتنام، والمهمة: تحرير قراصنتِكم الأعزاءِ الأسرى. لكنّ القراصنة الجددَ لم يعثروا إلا على سراب. إن ضربة السيف في الماء هذه جعلت العالمَ كلَّه يضحك ملء شدقيه. وبعد هذا نفهم جيدا وعيدَكم المُرعبَ وتهديداتِكم... هل تدرون جيدا ما تفعلونه سيادة الرئيس؟ تصرفاتُكُم الخرقاء هي عقوبتكم الخاصة، كرسيُكم الرئاسي هو المقعدُ الكهربائي المخصّصُ لكبار المجرمين من قِبل قوانين بلدكم. اسمحوا لي أن أقولها لكم: ستظلون إلى غاية انتخابات 1972، تسمعون، ومثلما تيك.تاك ساعة لحظة القِصاص، هذه المقاطعَ المنغّمةَ: فيت.نام! فيت.نام! فيت.نام! سيادة الرئيس، أختِمُ رسالتي أمام وردة حمراء ذاتِ أريجٍ مسكر. إيه، نعم…كم هي جميلةٌ الحياةُ على الأرض الفييتنامية.. جميلة بقدرما هي مهدَّدَة!»