عندما يحاول الباحث متابعة تطورات الحركة الادبية والثقافية في بلادنا منذ العشرينات، وحتى الآن لابد وأن تستدعي انتباهه عدد من الرموز الادبية اللامعة، التي قدمت الكثير من الانتاج الابداعي المتميز والذي به تأسست الحركة الثقافية الحديثة في السودان بخصوصيتها وتراثها المشهود كعمل ريادي باهر مهد ارضية صلبة تحرك عليها وانبنى معمار الآداب والفنون السودانية فيما بعد باشكاله المختلفة وانماطه المتعددة. وضمن فضاء هذه الاسماء والرموز الادبية الرائدة نجد ان هناك بعضا منها ذات وهج خاص ناتج عن جهد متميز ومختلف، يستدعى الوقوف على بوابتها برهة من الزمن حتى يتمكن من الامساك بالخيوط الوهاجة التي نسجت مجمل المنتج الابداعي لهذا الرائد أو ذاك. وفي هذه السانحة أود ان نتطرق لواحد من أهم الرموز الثقافية والادبية التي برزت في فضاء حياتنا، وهو الناقد والشاعر محمد محمد علي الذي ولد بحلفاية الملوك عام 1922، وعاش بين رفاعة وحلفاية الملوك، وتلقى تعليمه الاولى فيها، وتخرج في معهد أم درمان العلمي عام 1945، وارتحل إلى القاهرة حيث حصل على ليسانس دار العلوم - ودبلوم معهد التربية - جامعة ابراهيم، وعمل بالصحافة السودانية والتدريس، استاذاً للغة العربية ثم محاضراً بمعهد المعلمين العالي، وكانت رغبته في مواصلة السير على الطريق الاكاديمي الشائك ملحة وغامرة، فتمكن رغم ظروفه الصحية والعائلية من احراز درجة الماجستير في كلية دار العلوم بالقاهرة حيث كانت رسالته عن الشعر السوداني في المعارك السياسية (1821-1924م) التي يقول في مطلعها (ولا أكلم القارئ اني تعبت في هذا البحث، فقد فرض عليَّ أن أنجزه في زمن قصير، بعد أن أكل السقم جزءاً كبيراً منه أمضيته في السودان أياماً وليالي باحثاً عن المراجع السودانية التي لا وجود لها في مصر، وهي أيام وليال... لم أتعلق فيها ببحث ولا درس، وصادفتني صعوبة لم تصادف غيري ممن درسوا الشعر السوداني قبل هذه الدراسة التي أقدمها). أما عن كتابه (محاولات في النقد) فهو يصور حقبة تاريخية متميزة، وأعني بها فترة ما قبل الاستقلال وحتى عام 1958.. والكتاب يعكس لنا صورة ناقد من الطراز الاول اهتم بكل جوانب الحياة ومنحها قسطاً من تفكيره واهتمامه، وهو بالاساس عبارة عن مجموعة من المعارك الفكرية والادبية اجراها صاحبها مع العديد من الشخصيات الادبية والعلمية.. رغم انك قد تلمح في بعضها (تحرشاً) واضحاً من الكاتب ببعض الشخصيات مثل تناوله لمقدمة ديوان اصداء النيل لعبد الله الطيب.. وقد اراد أن يقول ببساطة ان ديوان اصداء النيل (لا يستحق تلك المقدمة الرائعة التي كتبها الدكتور طه حسين عنه) يقول محمد محمد علي في ختام كلمته عن هذا الموضوع:- (ان كلمة أستاذنا الدكتور طه حسين ليست الكلمة الاخيرة التي تكتب عن هذا الديوان. فهي قد وصفت لنا وصفاً مبالغاً فيه ما يرتديه صاحب الديوان من ثياب، أما هو نفسه فلم تحدثنا عنه، ولم تكشف لنا عن حقيقته، والثياب التي خلعها عليه اسلاب قوم مضوا في سالف الحقب كما يقول الشاعر العظيم ابن الرومي هاجياً البحتري). هذا ما جاء في خبر محمد محمد علي الناقد، وهناك الكثير منه نتركه لفرصة أخرى، ولكن لابد وان نتطرق لأهم الجوانب الفكرية والمسائل الادبية التي شغلت ذهن ووجدان ناقدنا هذا وساهم فيها مساهمة كبيرة ويمكن أن نشير إليها في نقاط مختصرة:- أولاً:- الصراع حول مفهوم القومية وابعادها ودلالاتها الثقافية والاجتماعية والتاريخية. ثانياً:- الصراع حول تعليم الفتاة السودانية بين المحافظين والمجددين. ثالثاً:- الجدل المحتدم حول الحياة العصرية اثرها على الانسان السوداني من سينما ومسرح واذاعة ومجلات واسطوانات وكرة قدم الخ...). ويقول الكاتب معلقاً على تلك القضايا في كتابه (محاولات في النقد): (فأنا لا أنشر هذه المجموعة من المقالات لأني مازلت أؤمن بكل ما تحتويه، وانما عنيت بنشرها لأني عشت فيها فترة من حياتي، وهي فترة لها حيزها البارز في تاريخ السودان فمن حق القارئ الذي لم يقرأ ما كتب حينذاك أن يراني كيف كنت أفكر. يرى ملامح الشمعة التي كنت أحملها على ضآلتها وخفوت ضوئها، ومن حقه ان يلمح مدى كراهيتي للاستعمار والطائفية والقبلية، ومن حقه أن يحس مرارة نفسي في تلك الفترة وان يلمس السخرية التي كنت استجير بها من قسوة ما كنا نسام من عذاب، والتي كنت أظن اني أهز بها صروح الظلم والعدوان أعالج بها الخطوب التي تصبحنا مطلع كل صباح وتمسينا مهبط كل مساء). هذا مجمل قول مختصر عن محمد محمد علي الناقد، أما عنه كشاعر فنكتفي بما كتبه عنه صديقه الشاعر محمد المهدي المجذوب في مقدمته لديوان (ألحان وأشجان) حيث يصفه وصفاً بليغاً (نحيف منحني الظهر قليلاً، ترى خيوطاً جميلة في قسامته ولكنه انفعالي اذا تحدث يعطيك ابراق العينين) وفي هذا الديوان الذي يمثل الفترة التي سبقت الاستقلال والتي أعقبته بقليل ترى فيه قصائد الكفاح تزحم الديوان وتسمع من خلاله ترنيمات ألحان شجية هي في الواقع جزء من نفسية الشاعر، فالشاعر لم يكن متشائماً في يوم من الأيام بل كان دائم التفاؤل شديد الثقة بالمستقبل.. أما بعض الصور الشعرية المنقبضة التي يراها القارئ في بعض القصائد فهي صورة وقتية زائلة عليها عناء الحياة اليومي وكدرها المتواصل، وهي قطعاً صور متأصلة في نفس الشاعر) وفي ديوانه الثاني (لحظات شاردة) الذي خرج إلى حيز الوجود بعد وفاة الشاعر الذي كتب هذه الأبيات على صدره لتلخص مجمل افكاره وآرائه:- (هذا بعض الذي أجرته نفسي على الاوراق في جمع شتات وما لجماله حرص عليه، ولا يكون ذخراً للرواة ولكن أطالع فيه وجهي يلوح معبراً عن بعض ذاتي). ولقد قام الدكتور عون الشريف قاسم بكتابة مقدمة للديوان حكى فيها عن حياة الشاعر، ونعرض لبعض الجوانب في شعره التي يمكن ا ن تلقي ضوءاً على شخصيته وتحدد معالمها.. كما نعرض في مقدمته للطريقة التي اتبعها في جمع القصائد وتنقيحها، وقال ان هذا الشعر ليس كل ما قاله الشاعر محمد محمد علي اذ ان هناك بعض القصائد المفقودة التي قد نجد بعضاً منها على صفحات الجرائد، والبعض الآخر في خزائن الأصدقاء. *كاتب سوداني مقيم في استرليا