مع هذا القادم من قرية جامع أبوعجورة باحثا عن شقيقه الاصغر المختفي منذ ست سنوات مع (انقابو ولد طلحة سننزل من اللوري بعد منتصف الليل حيث تقف اللواري القادمة الى (كافا) لتستقبلنا في مقهى الخيرات (محمد ولد برمة) الذي ينادي (محمد ود أم عجب). وكما تشاء رواية السوداني ابراهيم اسحاق ابراهيم (وبال في كليمندو) ستقرأ معي مع (انقابو) منذ هذه اللحظة اسرار اختفاء شقيقه، وصولا الى خيبة العثور عليه. ولكنها ستكون عبر ذلك قد قرأنا - عشنا ازمته مما تمثل (دكة كافا) الريف السوداني فيما ستتوزعه اصوات الرواية من الحكايات محددة الاسلوب التراثي في الروي. فالرواية تأتي على ستة عشر فصلا ، تروي منها كلتومة اربعة، ويروى عمر اربعة والبشري اثنين وتبقى الحصة الكبرى لعبدالقادر ستة ، ومن فصل الى فصل سيتداول الجميع عبارات (حدثني فلان) (يحكي فلان) (تخير في فلانة) يعترف لي فلان، قالت الاخبار... فتقوم قصة اختفاء (قمر) شقيق انقابو بالاشتباك مع ماضي وحاضر قرية ، دكة كافا، كما يليق بالرواية البوليسية والتاريخية، ولكن بتكثيف بالغ يراهن على اللمحة والاشارة ، وفي الآن نفسه تتوهنا بالعشرات من الامكنة والشخصيات والاحداث، كما تتوهنا الحوارات بالعامية السودانية ، بقدر ما تشرق الفصحى سلاسة ودقة وبساطة.. تبدأ كلتومة الرواية وستنهيها بما تنقل عن وصف ود ام عجب لانقابو لحظة وصوله (مكدود وهريان مثل الجمل الذي شالوا عنه لوم الاحمال في عقابيل السري، لا يطمح بشئ سوى ان يضع جمجمته على التراب ويهجع. وفي وصف ود ام عجب لمبيت انقابو في المضي يقول (وكستنا مجاورة الليل السالف الفة شفافة لا يزحمها كلام زائد) وفي متابعة هذه الاسلوبية الروائية في الوصف سنرى فيما بعد عبدالقادر يصف انقابو (على خرطومه علامة جرح غير عميق، ويصف نفسه والآخرين وانقابو اذ تجرع الاخير حكاية اختفاء شقيقه، فنقرأ : (ينكفي انقابو ساكتا ونحن على رؤوسنا زير الحديد)... ونقرأ: (قلبي يرزم مثل الناقوس)، ولعل هذه الاسلوبية ترداد تخصصا بمتابعة تغييرات شتى لشخصيات شتى فيما سيلي ، كأن يقول عمر: (الدنيا بطن تور لا يملأه شئ)، او تقول كلتومة في قريتها (الدكة كرش الفيل) و(الدكة هذه فيها عجائب وغرائب) واول ذلك قدوم قريب لزوجها الفكي البصير ولد نافع لول مرة بعد ثمانية عشرعاما من نزوله في الدكة، وزواجه من هذه الارملة. مما يثير خوف كلتومة من ان يقلقل ذلك استقرارها ، ويعود زوجها الى ذويه، وهو الذي يتقول مهاويس الدكة كما يرى عبدالقادر انه (بلا عرق) ويعيرون ذوي كلتومة بتزويجه (وليتهم) بعد كلتومة سيروي عبدالقادر عن انقابو بحثه وذووه ست سنوات عن قمر بلا جدوى، وغضب ابيه من الشاب المختفي ، ثم يروي عمر الذهاب الى المحكمة للتأكد من مطابقة وصف عبد انقابو لشقيقه على شاب حل في قرية مجاورة واختفى.. وستفتح سيرة المحكمة سيرة (ود جبار المقدوم التسعيني الذي ينهض بأعباء المقدومية المتوارثة في اسرته منذ ثلاثة قرون، فتشتبك هذه السيرة مع قصة (قمر) من الآن فصاعدا، وكما سيرويها عبدالقادر بحسب وصية المقدوم دبلوهو الحار طيبة حبة ما تعطر واقلبه.. في وليمة الاحتفاء بالضيف انقابو ، يبدأ عبدالقادر الروى جرعة جرعة، مبتدئا بنزول قمر ولد طلحة في قرية ام رحيمة المجاورة ، وتعلق عزة بنت برشم الصغرى بالشاب، ومحو الشاب لآثاره، ماضية، وايواء شيخ ام رحيمة له ، وعمله في قطع الاشجار ثم في الرعي، والمثل الذي ضربه في الجد والعفة على الرغم من تخرص احد اولاد ابيرق عليه. فيما ترفض عزة اولاد عمها، ابيرق، الثلاثة ، يفرح قمر بالفلاح كأنه فهد في البقعات الواطية من ارض قوز حماميض الزاكي حتى يأتي حسن ابو حسيبة للشيخ، معلنا عزمه على ان يخطبه من نفسه لحسيبة، اذا كان بيت برشم لا يريدونه فيذهب الشيخ مع رهط الى المرعى. ويباغتهم باختفاء قمر تاركا محفظته ومدينته، الاثر الوحيد المحفوظ لدى المقدوم. في حوار هامس بين كلتومة ومستورة تتحدث الاولى عن عزة التي راحت تذوي بعد اختفاء قمر... وعن غناء ميارق الذي ابكى الناس، وعن فتيان الدكة الذين يمضغون الكلام عن عزة من مجنونة قمر، وعن فتوى الفكي محمود ( لا يجوز لاحد الناس ان يحتكر انسانة حرة وهبها ربها كامل ارادتها.. والذي يلزم لبرشم هو ان يطيع الله عز وجل قبل ان يطيع معتاد الناس واهواءهم.. ان يسأل قمر ان كان يرغب في عزة ، فان توافقا وحب على برشم ان يزوجها فيحيي الانفس... (من احياها فكأنما احيا الناس جميعا)... وفي هذا كما في كثير سواه يظهر ما للمرأة في الريف. لكن قمر اختفى وعزة فقدت عقلها الى الابد كما تروي كلتومة، اما عبدالقادر فيبدأ في فصل آخر: (وقلت لنفسي يا عبدالقادر فلتطعهم الجرعة الثانية)... ويبدأ بحكاية ضعف بصر ود جابر المقدوم وبحثه عن العلاج في الخرطوم مع ابن شقيقته ماهر الذي ما اقتناه خاله من الكتب. وسيروي ، كما ينقل عنه عبدالقادر لانقابو ومن حوله، سرقة اولاد ابيرق لتيوس المقدوم وشكوى المقدوم للشرطة، واحضاره لمن اشتهر في (كاجا) بالطب البلدي وهو (دودين) الذي سيعلم (برغوث ولد جلة) صيد العقبان بحسب دروس الخبير في صيدها بر ابو جبيلات ، فمسحوق عيون افراخها مخلوطا مع مسحوق نباتات وعروق اعشاب هو الدواء الذي يصفه دودين لعيني المقدوم، والذي يوافق بالجملة ما قرأ المقدوم في الكتب. لكن ذلك يبقى سرا حتى يبدأ برغوث صيد العقبان. لا يفوت عبدالقادر في نهاية الجرعة الثانية من قصة اختفاء قمر ان يحمد لانقابو صبره على ما يحكي له (فما شأن ود المقدوم بأخيه)؟ اذ ان عبدالقادر، ومن بعده عمر، وفي فصل آخر بعد فصل ، سيفيضان في تمرد الزاكي على الاتراك، وفي اخبار المقاديم وزمن الامان في الحج، وازدهار التجارة مع مصر والشام والمغاربة، وعندما كان تجار الشركس والارناؤوط يجمعون من هنا ريش النعام وسن الفيل وجلود الفهود والنمور والكيمختي ينقلونها الى بلاد الاوربيين ، ويرجعون لنا منهم بالسيوف الصقال والزرود والبنادق. كذلك في نعم من الله حتى ابتلانا جلت قدرته بالترك الغشيمين، والانجليز المخادعين والافندية المهووسين وانجاطت الدنيا.. مع صيد برغوت للعقبان ، والذي ستروي مستورة حكاية قدومه الى الدكة ايام الجوع والمحل والناس سعرانة كالمخاليع، سيكثر في الدكة الحديث عن عواقب الصيد في الظلام، فالشياطين حذرت عباد الله لآلاف السنين، بأن هذه الوحشيات انما هي اغنام وابقار وجمال الجن، ولا يجوز لاحد من الناس ان يجعل همه بتقتيلها والعيش على عطاياها..ألم تترك لكم الجن البهائم... فلماذا تزاحموها (فيها) ؟ في الصيد؟! ولكي تصدق الاسطورة يخرج برغوث الى الصيد يوم العيد.. لكن العقاب الذكر الاهم يقلع له عينا ، وبالكاد ينجو من الانثى الربداء وفي عودته بعين واحدة يرصد رمي ثلاثة رجال لجثة في واحدة من الهواتر، ويتأكد من ا نهم اولاد ابيرق ،ويحمل السر للمقدوم الذي سيأمره بمكاشفة انقابو اخيرا، بعدما اوفي عبدالقادر جرعات القصة، لكن برغوث سيدع انقابو معلقا اذ يسأل عن القتيل (قمر ولد طلحة ولا غيرو) فيتسم برغوث (والله ما بعرف)... لقد ادعى المقدوم على اولاد ابيرق بقتل مجهول لكن نكرانهم التهمة وفقدان الادلة، فالمقدوم لا يستطيع كشف شاهده حماية له وائتمانا على السر، سيبطلان الادعاء، ويفرج عن المتهمين بلا ضمانة، حتى يتسمموا بخمرة (ام بلبل) على يد حبوبة قائلة من عايدات الارجاس اللواتي حمل عليهم السلطان عبدالرحمن الرشيد، وحددت الشرطة الحملة بعد موت اولاد ابيرق ، ولكن من يقدر على حبوبات العوائد؟! مع قرب اكتمال قصة اختفاء قمر، وبعدما روى عمر اجتماع اللجنة الشبابية في الدكة ليلة المناصحة الكبرى، يروى البشرى اجتماع اللجنة لشعبية، ابتداء بخطأ عبد المقصود في الخلافات الاجتماعية التي تنعكس على الحالة الامنية والقضائية والادارية، وعلى ضعف دور النساء في المحافظة على الأصلح في حياتهن، فكان الخطاب رسالة الرواية التي سيعززها خطاب ساحر عن الرشاوى والوصولية، حتى اذا تلا خطاب ولد العمدة محذراً من الاعتماد الكلي على الشرطة ومؤكداً على الاعتماد على السلطات الاهلية، انبرى ناصر ولد حمودة حاملاً على الاقطاعيين وشهود الزور من التجار والموظفين والمتعلمين الساكتين، بينما النساء مدفونات في البيوت، وأولاد الشراتي والعمد وبقايا المقاديم بلا طجة السلاطين المستبدين لا يزالون عندكم يمسكون بزمام السلطة والمال والمواجهات في عصر الاقمار الصناعية، ويصل ناصر إلى قضية قمر فيهدر: «يا للعجب... البلد كلها تنتظر في أهم قضاياها الجنائية إلى أن يحركها اقطاعي مخرف متسلط على القانون مثل ود المقدوم وحريات التصرف عند الرحابل والنساء كلها مقيدة وممنوعة حتى يوجه مصائر الناس أهل الشعوذة. بالشجار ينفض الاجتماع مؤكداً الصراع بين أزمته الدكة - الريف السوداني - وتختم كلتومة الرواية بخبر احتضار أكبر عجائز الدكة، ووداع أنقابو وهي تحمد الله: «كيف لا أحمد» وأنقابو ثم لم يأخذ معه البعير، ولا هو مكث لدينا «يتلعبث حتى يستوطن». غير أن القراءة ستظل ترجع من الرواية، كما رجعت البلد في اسمارها قصة قمر وعزة والتي بلغت بالناس أن سموا الجياد والمهور الاصلية: عزة وقمر، «والثيران البديعة والعجول الفارهة سموها عزة وقمر».