أجلسوا الأستاذة فاطمة محمد المدني زوجة الشاعر السوداني الفخم الصاغ محمود أبو بكر صاحب القصيدة الوطنية الأشهر «صه ياكنار»، والتفت حولها بناتها وحفيداتها وهن يصوّرنها صوراً تذكارية بمناسبة تدشين ديوان زوجها الشاعر «أكواب بابل من ألسنة البلابل» وقد تجاوزت الثمانين من عمرها، وهي تلبس نظارة كثيفة وتتحرك بصعوبة وكأنها ليست الفاطمة الجميلة الموجودة صورتها في ملحق الصور بالديوان، والتي ألهمت الشاعر محمود أبو بكر كل شعره الرائع البديع... إنه تعاقب الأيام والليالي، كان ذلك في سهرة رائعة من سهرات أروقة التي طبعت الديوان... وكانت السهرة في يوم الأربعاء 29/9/2010م. إن شيئاً ما قد حدث للسودان، والناس الآن يتكلمون عن تقسيمه، في حين أننا لو تأملنا في تاريخ حياة هذا الشاعر الفذ نجد أنها بانوراما من الوحدة الوطنية عجيبة، فهو بيجاوي «حلنقي» مولود في بور بالجنوب، وأم درماني النشأة، وتعلم في عطبرة والأبيض وحلفا وكلية غردون والخرطوم ثم الكلية الحربية، وحارب في مالطا وصقلية... وكان إلى جانب شعره الذي يعد فيه من الطبقة الأولى الممتازة من شعراء السودان، كان عازف بيانو وعود وكمان وخطاطاً عبقرياً في الخط العربي والأفرنجي ورساماً وخبيراً في الخرائط، تالياً للقرآن وكأنما شدت حنجرته على أوتار عود، ومنشداً للشعر كمحمد سعيد العباسي... أقول إن شيئاً ما قد حدث لنا وإلاّ فقل لي كم منا تتهيأ له الظروف ويجد فرصة للتدريب وحظاً للتجوال وكسباً للتجارب بهذا الشكل الفريد الذي صنع أمثال الشاعر العظيم الصاغ محمود أبو بكر. ديوان محمود أبو بكر «أكواب بابل في ألسنة البلابل» به حوالي المائة وخمسين قصيدة شعرية، لا تكاد تفضل واحدة منها على الأخرى. وديباجته اللغوية عالية ثرة محكمة النسيج، وفي شعره تدفق وإلهام في إحكام وتجويد وأسر وقوة عارضة، فهو جندي عاشق للوطن عاشق للمرأة لكنه لا يغفل عن سلاحه. عرف له القارئ السوداني: «صه يا كنار وضع يمينك في يدي» التي لحنها الموسيقار العظيم اسماعيل عبد المعين، وكانت حداء السودانيين للتحرر والاستقلال عن الإنجليز، وتشرفت بأدائها فيما بعد مجموعة فريدة ضمت: أحمد المصطفى وحسن عطية وعثمان حسين... ويعجبني فيها قوله «صه غير مأمور» فالفعل صه فيه أمر مخلوط بالزجر... فإذا قال الشاعر صه غير مأمور فانظر أي شاعر تقرأ. وعرف له المثقفون كذلك أغنية «إيه يا مولاي إيه» التي يؤديها الفنان خضر بشير بدراميته المحببة. كما عرفوا له «زاهي في خدرو ما تألم» بالعامية السودانية شبه الفصيحة، وهي من أداء الفنان أحمد المصطفى، وقد رأيت بعض الكبار لا يسمعها إلاّ وتسمع شهيق بكائه. ولد محمود أبو بكر عام 1918م وتوفي في أم درمان عام 1971م، ومات وقد تجاوز الخمسين عاماً بقليل، ولكنه تجاوز كثيراً من الشعراء بكثير. ونحمد لأروقة وأحمد خاصة لمديرها الأستاذ المثقف خليفة حسن بلة الذي خصني بنسخة من ديوان الشاعر بعد أن عزَّ الحصول عليها، أن جعلت هذا السفر الأدبي العظيم متاحاً للسودانيين.. أقول ما عسى الشاعر الصاغ محمود أبو بكر قائلاً لو وصله في قبره خبر انفصال الجنوب، وأن بور التي ولد فيها لم تعد جزءاً من تراب السودان؟!