منذ مغادرته لصف المعارضة التجميعية عام 2000م، اثر توقيعه لما عرف باتفاق نداء الوطن (جيبوتي) مع نظام الانقاذ، يعاني حزب الامة القومي من ازمة داخلية مستحكمة. ابرز عناوينها المراوحة في الموقف من النظام بين المعارضة والموالاة، ومثلما ترك اتفاق جيبوتي اثراً سلبياً على وضع معارضة الخارج، فانه أحدث تصدعاً داخل حزب الامة القومي، فالموقف من المشاركة في النظام، هو اساس الاتفاق وجوهره، وجد معارضة جدية من جماهير وكوادر وبعض قيادات الحزب بالداخل، غير أن احتواء الخلاف الداخلي عبر صيغة تسوية تلتقي عندها اطراف الخلاف فيما عرف بالمشاركة المشروطة، لم يستمر وقتاً طويلاً، اذ سرعان ما خرجت الاطراف الراغبة في اتخاذ موقف حاسم من المشاركة أو المعارضة، عبر انشقاقات متعددة وتبقت أخرى لوقت لاحق ،الامر الذي اضعف الحزب وفاقم ازمته الداخلية. وفي مواجهة الانشقاقات والاوضاع الداخلية المتأزمة، وتباطؤ النظام في انقاذ اتفاق جيبوتي، سعى حزب الامة جناح السيد الصادق المهدي للاستقواء بالقوى السياسية وهو ما عبر عن نفسه بالعديد من المواقف التكتيكية والتي بدأت بالدعوة لقيام تحالف في مواجهة قيادة ا لسيد محمد عثمان الميرغني للتجمع الوطني، إلا ان ذلك لم يجد حظه من النجاح لانفضاض القوى السياسية بعد أن وجدت نفسها تستخدم لاغراض ليس لها علاقة بالصيغ والاهداف التي تقوم عليها التحالفات السياسية. كما سعى حزب الأمة لايجاد موقع (متقدم) في الاطار الذي ارتضته قوى الاجماع الوطني بقيام تحالف القوى الوطنية، خاصة في مؤتمر جوبا التي سعت من خلاله القوى السياسية المعارضة لبلورة موقف موحد للقوى السياسية حول العديد من القضايا وعلى رأسها تحديد الاشتراطات المطلوبة للمشاركة في الانتخابات والتي ربطتها بأحداث تحول ديمقراطي حقيقي، من خلال الاستجابة لمطالب محددة تضمنها بيانه الختامي. وفي حالة على عدم الاستجابة لتلك المطالب من قبل الحكومة. لجوء القوى السياسية مجتمعة لمقاطعة الانتخابات، لكن حزب الأم جناح السيد الصادق، لم يتقيد بهذا الاتفاق وسعى من خلال مسارب جانبية، بعيداً عن اجماع قوى مؤتمر جوبا، للتوافق مع الحكومة، حول شروط تؤمن استمراره في المشاركة في الانتخابات بعد أن استهل منها ملياري جنيه من قيمة ممتلكاته المصادرة، وهو ما لم يتحقق بالكامل، مما دفعه لاعلان مقاطعته الجزئية للانتخابات، قبل ساعات من بدء التصويت. وانعكس ذلك التردد في ارباك قوى المعارضة ودفع بعض القوى السياسية للمشاركة في العملية الانتخابية. لكن تجربة الانتخابات الرئاسية والتشريعية الاخيرة، لم تكن الاولى في سجل الحزب الملئ بالمناورات والتي بدأت ومن اعتقال السيد الصادق المهدي في بواكير عهد الانقلاب عندما وجدت بطرفه مذكرة موجهة لقادة الانقلاب تتحدث عن خارطة طريقه، عموماً فقد خرق اجماع القوى السياسية التي طالبت باجراء تعديلات على قانون الانتخابات في مذكرة شارك في التوقيع عليها ممثل حزبه، وقدمت للجهات المعنية في الحكومة، وذلك عندما فاجأ حزبه وعموم الحركة السياسية بالتوقيع على ما عرف باتفاق التراضي الوطني بين حزب الامة والحزب الحاكم الذي لم يتمخض عنه سوى استرداد السيد الصادق لجزء من قيمة ممتلكات حزبه المصادرة بينما ينسف التراضي بصورة خاصة ما اتفقت عليه القوى السياسية بما فيها حزب الامة جناح الصادق، بشأن تعديل قانون الانتخابات. لقد أكد اتفاق (التراضي الوطني) وكما سبقه من اتفاقات أبرمتها قيادة حزب الأمة بقيادة السيد الصادق المهدي مع النظام، مثل اتفاق جيبوتي ولقاء جنيف، النهج الثابت لحزب الأمة جناح السيد الصادق في عدم التقييد والالتزام بقواعد التحالفات كسلم للوصول لاهدافه الخاصة، بل وقطع الطريق أمام التحالف لانجاز مهامه، أو الخروج على التحالف ان لم يؤمن له تحقيق تلك المصالح ولهذا الموقف جذوره في خروج السيد الصادق المهدي على الجبهة الوطنية المعارضة لنظام 25 مايو بعد لقائه بجعفر النميري في بورتسودان ومصالحته، ثم خروجه على التجمع الوطني بعد لقاء جنيف واعلان جيبوتي للمصالحة مع الانقاذ ثم خروجه على الاجماع الوطني ومشاركته في مؤتمر كنانة وفي هذه الحالات الثلاث أعقب خروجه بهجوم قاسي على حلفائه السابقين الذين ثبتوا على خط المعارضة ثم خروجه المتقطع على مقررات جوبا اذ قبل ان تكتمل عودة وفود الاحزاب من جوبا استعجل الوصول إلى الخروج ليشارك في المؤتمر العام لحزب المؤتمر الوطني خارج سياق مقررات جوبا كما وفي غمرة الندوات والتظاهرات التي قادتها قوى المعارضة في ديسمبر الماضي 2009م للضغط على النظام لالغاء قانون أمن الدولة والقوانين المقيدة للحريات فقد التقى بالسيد رئيس الجمهورية وطرح مبادرته القديمة الجديدة للحوار اجهاضاً للزحم الشعبي والتفافاً حول مقررات مؤتمر جوبا، وظل يناور على الاجماع الوطني للحيلولة دون اتخاذ موقف حاسم من الانتخابات ليعيد طرح مبادرة من جديد قطعاً للطريق أمام انعقاد المؤتمر الشامل الذي شارفت قوى الاجتماع الوطني على استكمال اعداد أوراقه، ولااخطر من هذا وذلك ان الحوارات التي تجري بين حزبه والحزب الحاكم كانت مدخلاً لاختراق الحزب رأسياً وأفقياً ووصل ذلك الاختراق الأمني مستويات متقدمة، المستوى القيادي للحزب، والمتابع السياسي العادي يمكنه الاستشهاد بالعديد من الحالات، ضمنها وليس آخرها انسلاخ ممثل حزب الامة في تحالف القوى الوطنية مسؤول سكرتارية التحالف وانضمامه وبكل وثائق التحالف للمؤتمر الوطني بعد الانتخابات. ان حزب الأمة جناح السيد الصادق المهدي ومنذ العام 2000، عام الخروج على التجمع الوطني نأى بنفسه عن أية محاولة للمشاركة في تأسيس تحالف استراتيجي للقوى السياسية مبني على رؤية وبرنامج بعيد المدى، والاستعاضة عن ذلك بالمناورات التكتيكية، رغم توقيعه على ميثاق تحالف القوى الوطنية ومقررات مؤتمر جوبا، فموقف اللامعارضة واللاموالاة، الذي وجد حزب الصادق نفسه فيه، منذ ذلك الحين، كتعبير عن أزمة المركز القيادي في حزب الأمة، الذي أصبح يعتمد على رئاسة السيد الإمام وآل البيت في ادارة شؤونه، والتي اعترض عليها العديد من كوادره وقيادته الموجودة والمغادرة وكان المؤتمر العام الاخير للحزب خير شاهد على ذلك. ان ازمة حزب الامة جناح السيد الصادق قد انعكست في شكل علاقاته بأطراف الحركة السياسية وجماهير الشعب، التي أصبحت لا تثق في مواقفه المعلنة خاصة ان قيادتها قد تبنت شخصياً وموقفاً تساومياً في العلاقة مع النظام وان جاءت في بعض الاحيان تحت لافتة حوارات ومذكرات مع (مؤسسة الرئاسة). بل ان السيد الصادق المهدي قد تعهد بامكانية جمع عدد من رؤساء الاحزاب لقيادة حوار مع المؤتمر الوطني فيما سمي حينها بلجنة (8+8) والتي وجدت انتقادات حادة من القوى السياسية. الا ان هذه الفكرة القائمة لزج القوى السياسية في حوار مباشر مع المؤتمر الوطني لازالت تعشش في ذهن السيد الامام وهي فكرة تقوم على عزل بعض الاطراف الوطنية ذات الموقف الوطني الصحيح في المشاركة للالتفاف حول مأزق الازمة الوطنية الشاملة والابتعاد عن اتخاذ أي موقف جذري من النظام وسياساته، بناء على برنامج وموقف مبدئي من قضية استعادة الديمقراطية والحريات العامة والحقوق الاساسية للشعب. وقد تأسس هذا النهج التساومي وتكرس بوجود قنوات حوار (خلفية) مع النظام، وبعيداً عن مقتضيات الاجماع الوطني أو الالتقاء مع القوى السياسية الأخرى وقد استطاعت قيادة السيد الصادق المهدي من خلال هذا النهج التساومي وقنواته السرية الحصول على بعض (المكاسب)، مثل الاموال التي تلقاها الحزب من النظام في فترة الانتخابات، كجزء من تعويض ممتلكاته المصادرة، وحصول بعض أبناء رئيس الحزب على وظائف في اجهزة حساسة بالدولة، وهو أمر لا يمكن تصوره بمعزل عن صفقات سياسية مع النظام. ان علاقة حزب الأمة جناح السيد الصادق بالقوى السياسية، في ا لداخل سواء في الحكم أو المعارضة، المشوبة في ظاهرها بالتناقض والاضطراب والمناورات التكتيكية، كشكل لتجلى ازمته الداخلية، وفقدانه للاتجاه، تتأثر بالعوامل الخارجية، التي أصبح لها حضورها ا لملموس في مجرى السياسة السودانية خلال العقدين الماضيين، فلقد ظلت قيادة حزب الأمة تراهن على دور هام للقوى الخارجية، خصوصاً الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوربي في تغيير الاوضاع السائدة بالبلاد، وظهرت في تلك الفترة شعارات ما يسمى (التدخل الحميد) وأدى هذا الرهان إلى سعي قيادة الصادق المهدي إلى التماهي في موقفها مع مواقف تلك القوى في كل الميادين السياسية: العربية والافريقية والدولية والوطنية في محاولة لكسب دعمها وتأييدها. وعلاقتها بالسفارات الاجنبية بالخرطوم معلومة ولا تخفى على احد فمثلما أيدت الغزو الامبريالي الصهيوني لافغانستان والعراق، فانها أصدرت البيانات والفتاوى تأييداً لمواقف تلك القوى الداعي لنشر قوات دولية في دارفور، ومحاكمة جرائم دارفور أمام محكمة الجزاء الدولية في لاهاي. وفي هذا السياق أدارت قيادة السيد الصادق ظهرها للعمل الكفاحي (الجهاد المدني) ولنضال العمال والموظفين والمهنيين وعموم الكادحين، بدعوى (الفشا غبينتو خرب مدينتو)، في الوقت الذي تدعي فيه الحرص على النهج القومي والاجماع الوطني، وجدت نفسها تنخرط في مشروع الحوار مع النظام اتساقاً مع نهجه التساومي وقنواته السرية، ولا يتعلق الامر بلقاء جنيف واتفاق جيبوتي واتفاق التراضي الوطني، حسب، وانما بالمساعي التي بذلتها مؤخراً بعد اعلان القوى السياسية الدعوة لقيام مؤتمر السودان الشامل، فها هو الصادق المهدي ومن جديد يتقدم بمذكرة جديدة لجر بعض القوى السياسية لتبني مواقف مسبقة حول أجندة المؤتمر المزمع قيامه وذلك من خلال مذكرة التفاهم التي دفع بها إلى (هيئة الرئاسة) رغم أن عضوية ممثلي حزبه يعمل في لجان المؤتمر بل وقدموا مساهماتهم كتابة، ومن جديد يطرح السيد الصادق فكرة (8+8) هذه ا لمرة تحت ما يسمى ب(الحكماء).. ويلاحظ في هذه المبادرة وسابقها والمرتكزة على تنسيق واتفاق ثنائي، مسبق ما هو إلا انتهاجاً لنهج العزل السياسي لبعض القوى السياسية الفاعلة وعلى رأسها حزب البعث العربي الاشتراكي وللتيار القومي الاشتراكي وغيره من القوى الوطنية إلا أن القوى السياسية التي تنادت بقيام مؤتمر السودان الشامل والبالغ عددها 41 تنظيما انتقدت وبالاجماع ما ذهب إليه السيد الصادق المهدي بل قررت رفع مذكرة لحزبه تستنكر فيه هذا المنهج والذي يتعارض مع المسلك السياسي للعمل المشترك، بل يعرقل الجهود لاخراج بلادنا من أزمتها الشاملة، وهي تستشرف مرحلة الاستفتاء على تقرير مصير جنوب البلاد، وكما تستبطنه من احتمالات الانفصال، وهو سلوك يتجذر في حقيقة فشل القوى السياسية في تغيير النظم بمختلف الوسائل خلال أكثر من عشرين عاماً، واضطرار بعضها للتعايش معه وتحت سقف خياراته السياسية والفكرية والاقتصادية والإجتماعية، تعبيراً عن فقرها وافلاسها ويمثل حزب الأمة أبرز حالات ذلك الفقر والإفلاس و(الاستهبال) السياسي، الذي يتعين على القوى الوطنية والديمقراطية تجاوزه استشرافاً لمستقبل أفضل للسودان.