أوردت أجهزة الإعلام مؤخراً ان وفداً برلمانياً زار مدينة كبكابية باقليم دارفور، ووقف الوفد على حالة من تزايد تعاطي المخدرات وسط الشباب في وقت توقفت فيه أجهزة السلطات العدلية تماما عن اداء دورها في المنطقة كما هو الحال في معظم مناطق دارفور تحت لائحة الطوارئ والعمليات، فيما بدت المحلية عاجزة عن القيام بتدابير ادارية تقضي على الظاهرة ضمن ظاهرات سالبة أخرى أفرزها (النزاع الداخلي المسلح (The Internal Armed Conflict الذي استعر لأكثر من سبع سنوات في الاقليم بين اطراف مسلحة من بينها حكومة السودان، وهو نزاع مايزال خارج دائرة السيطرة والتسوية والغض الكامل. اما مواطنو كبكابية فبين ايديهم سجل مفتوح لكل انواع الانتهاكات الجسيمة التي وقعت بالمنطقة دون ان يفقدوا القدرة على التواصل وبناء شراكات مع ابناء المنطقة في مختلف الانحاء خاصة العاصمة الاتحادية وذلك للمساهمة في التخفيض من آثار تلك الانتهاكات التي دخلت نطاق جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية مع تأكيد العمل على توفير فرص البقاء والامن لمواطنيهم في المنطقة، وللمساهمة كذلك في الدفع المباشر بالعملية السلمية لدارفور افريقياً وعربياً ودولياً على نحو ما يجري اليوم في الدوحة العاصمة القطرية، خاصة وان بعض رموز التفاوض المؤكدين على السلام في الحركات المسلحة والمسهلين من كبكابية. ان كبكابية منطقة تقع على تخوم الصحراء في شمال دارفور، على انها غنية بالموارد والمياه كما استطاعت ان تستوعب تعددا عرقيا وتنوعا ثقافيا ظل يشارك في الاحتفاء بالتاريخ العريق للمنطقة والذي يشمل تراث سلطنة دارفور في ازهى عصورها، عصر السلطان محمد تيراب، وتراث عصر الاتراك، والمهدية والادارة البريطانية والحكم الوطني، كانت كبكابية (شوبا) عاصمة للسلطنة، ثم كانت كبكابية عاصمة لمديرية كبكابية في العهد التركي، كما كانت ايضا آخر ديم من ديوم المهدية في السودان، وفي عهد الادارة البريطانية تراجعت مكانتها الادارية وصارت جزء من مركز كتم شمال دارفور، في سياق التطورات اللامركزية وفي سبعينيات القرن الماضي اصبحت كبكابية عاصمة المنطقة الجنوبيةالغربية لشمال دارفور، واليوم هي عاصمة لمحلية كبكابية تحت ادارة معتمد وبها كل الادارات الحكومية مدنية وعسكرية. لعله بخلفية التعدد العرقي والتنوع الثقافي والوضع الاستراتيجي للمنطقة كانت كبكابية اولى المناطق التي كانت مسرحا للنزاع المسلح، خاصة بعد ان استقطبت حكومة شمال دارفور القبائل كمليشيات مسلحة للتصدي لقدرات حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة بلائحة واسعة من الحوافز شملت استلاب اموال المدنيين وممتلكاتهم واخلاء الاراضي تمهيدا لاعادة توزيعها بمظلة الانتصار على التمرد. كانت المليشيات واثقة من قدراتها على تدمير حياة المدنيين وانتهاك حقوقهم، انها لم تكن معنية بالتصدي للحركات المسلحة، وفي احسن الحالات كانت تعمل عنف وارهابا ضد المدنيين وممتلكاتهم تحت رايات القوات المسلحة، باعتبار ان المليشيات في مهمة وطنية، وبذا السياق كانت كبكابية الأكثر تضررا والمنطقة الاوسع انتهاكا للحقوق. بدأت الانتهاكات المروعة في كبكابية مبكراً، بحرق قرى شوبا حول قصر السلطان تيراب، فيما قتل العشرات من المدنيين وانتهاك حرماتهم ونهب ممتلكاتهم وشوبا بعد لا تبعد عن الحامية العسكرية لكبكابية الا نحوا من خمس كيلومترات. ثم تم الاعتداء على المدينة الاسلامية غربي كبكابية (قرقو) وكانت احداثاً رهيبة، فقد قضى على المدينة وكل بنياتها التحتية في وقت كانت المدينة نموذجا لتعليم القرآن الكريم وعلومه، وتدريس الفقه وربط الدين بالمجتمع. لقد تم تدمير مقر الشيخ آدم حامد تماما، ونهب كل ممتلكات المدينة وجرى ترويع الطلاب والمعلمين واسرهم على نحو لم يكن متوقعاً البتة. ايضا وفي وقت آخر تم اعتداء منظم على كامل منطقة كرنقل شمال غربي كبكابية، وهي منطقة تجمع قرى تعايشت فيها اعراق مختلفة كان اعتداء تم فيه حرق القرى وقتل اكثر من مائة من المدنيين من بينهم عمي بخيت خاطر امام وابنيه اسحق وهارون، فيما هجر البقية المنطقة الى كبكابية وشمالا الى شرق تشاد، فيما بقيت المنطقة تحت ادارة مليشيات مستريحة. فضلا عن تلك الانتهاكات وهي كثيرة وتحت تسجيل المواطنين فان السوق الكبير بكبكابية قد تعرض لاعتداء مسلح في ديسمبر 3002م بمليشيات انطلقت من قيادة الحامية، ولم يكن المعتمد يومئذ بعيدا عن توجيهنا. لقد واجهه طلاب كبكابية بالخرطوم بحقائق وتفاصيل وجوده في سياق الاحداث. لقد كان الرجل كبيرا لم ينكر شيئا، انما طلب العفو واعتبار ما حدث شأناً من الماضي خاصة وان قصده الشخصي كما اورد انه كان يعمل على تخفيف آثار الحدث على المدنيين، ولكن لم يستجب له احد من الحضور بالعفو. ان الاحداث الرهيبة التي جرت في كبكابية منذ وقت مبكر من النزاع المسلح احدثت تغييرات جوهرية في التركيبة الادارية الاهلية القانونية للمنطقة. لقد انتقلت محاور الفعل الاداري الاهلي العسكري الى ضاحية مستريحة عاصمة المليشيا بديلا عمن العاصمة الادارية الاهلية التقليدية تحت ادارة شرتاي دار فيا. لعل اكثر الآثار السلبية تدميرا للمجتمع المحلي، انتشار السلاح واستخدامه في تشويه صورة المنطقة على نطاق واسع. لقد تواترت حكايات عديدة قبل وقت طويل عن حاملي السلاح من المنتسبين الى مليشيات مستريحة ومعظمهم من الشباب الذين لا يستجيبون لنصح الكبار وهم منتشرون في المثلث الواسع ما بين كبكابية وبركة سايرة ومستريحة، يستخدمون السلاح لحماية صانعات الخمور المحلية في مواجهة السلطات الاهلية والمحلية، كما يستخدمون ذات السلاح وهم يمتلكون وسائل التنقل الحديثة لجلب خمور في اكياس بلاستيكية من خارج الحدود الغربية، وجلب مواداً مخدرة من مناطق جنوب الاقليم ومحاولة نشرها بالبيع على نطاق واسع في المنطقة وبعض العسكريين قد شاركوا ايضا على نحو منتظم في ذلك كما يؤكد قادة الرأي الاجتماعي والسياسي في المنطقة. الى جانب ذلك استخدم السلاح الناري في حسم الخلافات الشخصية وفي كثير من الحالات أدى الى الوفاة، كما استخدم ايضا في ترويع المدنيين وصدهم عن ممارسة الانشطة المدرة للدخل بما في ذلك الزراعة، فضلا عن الاستيلاء على الاراضي بوضع اليد خارج النطاقات الادارية العدلية الاهلية المعروفة تقليديا. ان السؤال الاكثر جوهرية هو هل استسلم المدنيون في كبكابية لأوضاعهم الكارثية وتراجعوا عن تحمل مسؤولياتهم الاخلاقية؟! بحكم انتمائي للمنطقة أسرياً واجتماعياً وبحكم مشاركتي في المراقبة للاوضاع المتردية ومساهمتي مع الآخرين في المبادرات التي تخفف من وطأة النزاع، استطيع القول ان كبكابية لم تخضع للاستسلام البتة، والامثلة كثيرة، من قبل عام او يزيد عاد للخرطوم احمد سراج بعد طول غيبة في كبكابية، ولكنه كان متحسرا للاوضاع المتردية التي تعيشها المنطقة، قال احمد (كبكابية تعيش بلا محكمة.. بلا نيابة.. بلا أي من المؤسسات العدلية)، كان الامر بالغ التعقيد ولكن بمساهمة اتحاد الغرف التجارية بالخرطوم اجتمع قادة الرأي بكبكابية بقاعة اجتماعات الاتحاد للتداول وتأكيد التضامن المدني مع مواطني كبكابية المنكوبين وخلص الاجتماع الى تكوين مجموعة عمل للمتابعة، في وقت لاحق وفي ظل انباء ان بنك النيلين للتنمية الصناعية قرر تصفية فرعه في كبكابية دون رضا المواطنين وبرغم حاجتهم، استطاعت المجموعة بتفهم ادارة بنك السودان باعتبار ان وجود فرع البنك في كبكابية دعم للعملية السلمية، استطاعت ان تساهم في تراجع بنك النيلين للتنمية الصناعية عن قراره بشأن تصفية فرع كبكابية، وكان ذلك وعيا كبيرا من مسؤولي البنكين الكبيرين. على ان اكثر ما تم انجازه بحق مستقبل كبكابية ان استطاعت منظمة تنمية كبكابية في وقت مبكر ان تعقد ورشة عمل لوضع استراتيجية مستقبلية لتنمية المنطقة وذلك في مقر برلمان ولاية الخرطوم لاحقا وعند احتدام النزاع بين الاطراف وبعد التواصل مع كثيرين اقدمت المنظمة ايضا على عمل تذكرة الاجيال القادمة، لقد عملت المنظمة بالتعاون مع الجمعية السودانية للبيئة ومنظمة اكورد Accord الاوروبية لتوفير خيم كفصول اضافية في مدارس كبكابية مع توفير مرتبات اضافية للمعلمين حافزا لهم، فكانت النتائج باهرة فقد زاد عدد الناجحين في المنطقة واصبح الطلاب النازحون والطالبات النازحات في قائمة التفوق محليا وعلى مستوى الولاية. لقد شجع نجاح العملية التعليمية اثناء الازمة الآباء والامهات ايضا للالتحاق بالمدارس لمواصلة التعليم او بدء العملية التعليمية من الاساس. لقد صمدت كبكابية بشراكات مواطنيها، وبالذات المستنيرين والمستنيرات من الصامدين في الحقول المهنية المختلفة في المنطقة ومنظمات المجتمع المدني وشبكاتها ولكن ذلك ليس كافيا كما يبدو اذ لابد من استعادة العدل والخدمات الضرورية للمنطقة وعاجلا. من المؤشرات المبدئية للانتقال بالاوضاع الى حالة التمهيد للسلام. ان لجنة امن المحلية قد اتخذت مؤخرا اجراءات مبدئية لمحاصرة مدخلات العنف خاصة حمل السلاح غير المرخص، والمخدرات والخمور المستوردة. لقد وضعت لجنة الامن خيمة مراقبة اولى في ساحة السوق، فيما اخذت السيارات الحكومية للمتابعات الامنية في ازدياد خاصة خلال الاسبوع الماضي، في وقت اخذ المواطنون يتفاءلون بالمعتمد محمد آدم من مواليد جبل سي، وبقائد الحامية العميد فضيل محمد عثمان لتعاونهما وعملهما معا مع المجتمع المحلي في القضاء على فوضى سنين المليشيات. من ناحية أخرى اخذ مواطنو كبكابية يتفاءلون ايضا بأمل نجاح فرص السلام من خلال التفاوض في الدوحة، اذ ان ممثلي المنطقة في اجتماع وفد مجلس الامن للامم المتحدة مع ممثلي ولاية شمال دارفور بالفاشر، اكدوا على نحو متسق ان المصالحات والعودة الطوعية انما تتم بانهاء الفوضى الامنية ونزع سلاح الافراد والمليشيات واعادة الارض لأهلها، واستعادة المؤسسات العدلية والقانونية والادارية لادوارها تأهيلاً للمنطقة واستعداداً لمرحلة ما بعد توقيع اتفاق السلام بين الاطراف في دارفور.