سنظل ننادى بكتابة دستور سودانى دائم حتى يصبح الأمر واقعاً يهنأ السودانيون فى ظلاله .. لأن كل الضوائق والبوائق التى ظللنا نئن تحت وطأتها هى بسبب غياب دستور دائم فى هذا السودان .. إذ لا يُعقل أن ينال السودان إستقلاله منذ أكثر من خمسين عاماً وإلى تاريخ هذا اليوم لا يُوجد دستور متفق عليه من قبل السودانيين ينظم حياتهم ويحل مشاكلهم ويجعلهم يعيشون فى وئام وإستقرار متفرغين لتفجير قدراتهم ومواردهم المهولة بدلاً من أن يكونوا كالعيس فى البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول.. وبدلاً أيضاً من الخوض فى حروب أهلية لا تبقي ولا تذر. الدستور الدائم المعبر عن إرادة الشعب هو وحده القادر على حسم المشاكل التى ظللنا نعانى منها والتى أقعدتنا عن اللحاق بركب الدول المتقدمة ، بل إن ما نعانيه اليوم من معضلات مثل الإنتخابات ومأزق الإستفتاء والوحدة والإنفصال والتوهان فى متاهة الهوية والصراع المزمن حول السلطة والإخفاق الإقتصادى والتخلف فى كل مجال حيوى يعود بصفة خاصة جداً إلى غياب الدستور الدائم المتفق عليه من قبل كل السودانيين ... ولعل أسوأ ما نعانى منه بسبب غيابه هو الصراع حول السلطة الذى يحصد الأرواح ويهدر المال والوقت فيما لاطائل من ورائه . والذين يقفون حجر عثرة أمام إفتراع دستور متراضٍ عنه ، يحكم السودان وينظم الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية فيه، هم الذين يرغبون فى أن تستمر حالة الفوضى فى البلاد ويستمر إستغلال فئة صغيرة ومحدودة لموارد البلاد ومقدراتها دون الآخرين. لم يتطور العالم الخارجى ووصل إلى ما وصل إليه إلا لأنهم حسموا أمر الدساتير الدائمة لبلادهم ، اليوم نورد التجربة البرازيلية الحديثة ، فالبرازيل تعيش هذه الأيام إحدى تجاربها الإنتخابية الرائدة ، لنوضح أهمية الدساتير الدائمة فى حكم البلاد ، فهاهو الرئيس البرازيلى لولا دى سيلفا تنتهى ولايته الثانية وحقق ما حقق من الإنجازات على كل الأصعدة خاصة على الصعيد الإقتصادى فوضع البرازيل فى مقدمة دول العالم إقتصادياً وشعبه البرازيلى راضٍ عنه .. ولكنه لا يستطيع خوض الإنتخابات الحالية لفترة رئاسية ثالثة لأن الدستور البرازيلى يحدد فترة الرئاسة بولايتين و لا يجوز للرئيس أن يخوض الإنتخابات للمرة الثالثة بغض النظر عن إحتمال فوزه أو خسارته للإنتخابات وبغض النظر عما أنجزه وما لم ينجزه.. شهد الإقتصاد البرازيلى تطوراً مذهلاً فى عهد الرئيس البرازيلى لولا.. إذ حقق الإقتصاد البرازيلى طفرات مذهلة أدهشت العالم الأمر الذى شكل حماية للبرازيل من تأثيرات أزمة الديون التى نشبت فى الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوربا والتى تأثر بها العالم أجمع .. وقد تركز نمو الإقتصاد البرازيلى بشكل عام فى قطاعات الزراعة والصناعة .. والطفرة الزراعية على وجه الخصوص كانت سبباً فى وصف البرازيل بسلة غذاء العالم .. ولعل أكثر الأدلة والمؤشرات على طفرة البرازيل الإقتصادية هى تحقيق معدل نمو إقتصادى 2.75 فى خلال ثلاثة شهور .. وقد بلغ الناتج الإجمالى للبرازيل تريلون دولار أمريكى .. ليضع البرازيل فى مرتبة تاسع أكبر دولة إقتصادية فى العالم والأولى على مستوى دول أمريكا اللاتينية والفضل فى ذلك يعود كله للرئيس لولا دى سيلفا .. الذى أصبح أشهر الشخصيات العالمية فى الإستفتاءات التى تجرى سنوياً لإختيار رجل العام فى العالم. .. هذا كله جراء سياسات سيلفا الذى يستند إلى دستور قومى دائم أتى به رئيساً وسيذهب به أيضاً عن الرئاسة رغم أن إنجازاته تتحدث عنه فى كل المنابر السياسية والإقتصادية ولكنها لن تشفع له للترشح لفترة سياسية ثالثة !!. لم يأتِ لولا إلى السلطة بغتةً والبرازيليون نيام ... إنما وصل إليها بالدستور وتركها ( برضو ) بالدستور رغم ما قدمه للبرازيل ورغم إحتفاء شعبه الذى ودعه بالزهور والأهازيج .. من الممكن أن لا تفرز الإنتخابات رئيساً جديداً يحقق ما حققه لولا وربما يهدم كل ما بناه لكن إحترام الدساتير القومية والإلتزام بها هى التميمة لحماية الشعوب من الإنزلاق فى شراك الحروب والأزمات وهى الضامن الوحيد لإستقرار الدول ونموها وتقدمها وتطورها . عندما شرّع المشرعون المختصون بصياغة الدساتير تحديد فترة ولايتين لم يغب عن بالهم أن مثل هذه المادة فى الدساتير قد تحرم البلاد من الرؤساء الأخيار أمثال الرئيس لولا .. لكن قد ثبت للعالم من واقع التجارب التراكمية عدة وقائع تؤكد أن أمر الرئاسة وسياسة الناس شئ عسير ويأخذ كثيراً من جهد وطاقة الإنسان الأمر الذى يجعله بمرور الوقت أقل تركيزاً ولكن ليس هذا هو السبب الأساسى بل إن المشرعين أيضاً لاحظوا عندما يمكث المرء فى سدة السلطة لآجالٍ طويلة يترعرع الفساد فى عهده ويشب عن الطوق وتصُعب السيطرة عليه فيما بعد .. قد يكون الرئيس جيداً وملهماً مثل دى سيلفا لكن هناك حتماً فى البطانة من يسعى لإستغلال وجوده المستديم فى دائرة السلطة فى الفساد والإفساد ..أما أسوأ مظاهر البقاء الطويل فى كراسى السلطة وهو ذلك الإحساس الذى ينتاب طويلى العمر السلطوى بأنهم هم والسلطة وجهان لعملة واحدة ، فإن كانت سلطة فهم ولا شئ آخر ، حتى وصل الأمر إلى درجة الخصوصية والحق الشخصى ، ولذا تجدهم لايستوعبون فكرة مشاركة الآخرين لهم من بنى جلدتهم فى الوطن الذين لهم نفس الحق فى حكم بلادهم متى ما كانوا أهلاً لذلك ، أو على الأقل المشاركة فى إدارة شئون بلد هى بلدهم ، ولكن السؤال الأهم هل سيتقبل هؤلاء الآخرون فكرة ديمومة السلطة والإستفراد بها من قبل البعض وعزلهم إلى ما لانهاية عن المشاركة والإسهام فى إدارة شئون وطنهم ؟ الإجابة يعلمها القاصى والدانى ويعرف مآلاتها الجميع بعد أن ذاقوا مرارة الصراع حول السلطة وويلاتها ، ولذا فإن الإسراع فى كتابة دستور قومى يلبى طموحات أهل السودان هو المخرج الوحيد من الأزمات التى أصبحت تتداعى على الأمة السودانية أسوة بالذين سبقونا فى هذا المضمار ولنا فى تجاربهم أسوة حسنة .