السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    (برقو ومن غيرك يابرقو)    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    بيان هام من السفارة السودانية في تركيا للسودانيين    "بناء الدولة وفق الأسس العلمية".. كامل إدريس يدعو أساتذة الجامعات للاسهام في نهضة البلاد وتنميتها    بلاغ بوجود قنبلة..طائرة سعودية تغيّر مسارها..ما التفاصيل؟    نبيل عبد الله: قواتنا بالفرقة 14 مشاة صدّت هجومًا من متمردي الحركة الشعبية بمحطة الدشول    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    مونديال الأندية.. فرصة مبابي الأخيرة في سباق الكرة الذهبية    أكثر من 8 الاف طالب وطالبة يجلسون لامتحانات الشهادة الابتدائية بسنار    كيف تغلغلت إسرائيل في الداخل الإيراني ؟!    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    أردوغان: الهجوم الإسرائيلي على إيران له أهداف خبيثة    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    فيكم من يحفظ (السر)؟    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



.. عندي بيت في حي ملكيه ، بكتبوا ليك ، شرطا تعرس وتجيب عيال
فن يسهم في رفاه الإنسان
نشر في الصحافة يوم 06 - 11 - 2010

وانتظرت في مقعدي حتي تقف الطائرة ، أتأمل في الخضرة تحيط بالمكان ، تفسح فقط لشريط من الحصى والإسفلت يندمج ليصنع في رهقٍ طريق ومهبط للطائرات القادمات من كل اتجاه . أيامي الأولي تلك مطار ( ملكال ) كان عندي والكثيرين وأحد من أفضل المطارات خارج الخرطوم ، نأتيه في الطائرات الصغيرة ساعتين أو أكثر ، أحياناً أقل ، لكنها رحله تفكر بعدها مئة مره في استخدام ذات الطراز ، المشقة لا في لحظات انطلاقها وهبوطها ، تلك أيسر ، لكن في أوقات تصبح فيه مثل ورقة ، أقل ثم أقل كلما ابتعدت عن الثوابت من الأشياء ، تطير في ارتفاع صحيح معلوم لكنه من حجمها اللاشئ في ذاك الفضاء الواسع ، تدرك أنك كما أنت أصلا لاشي أقل بكثير من الشي ، لا عندك إلا الصبر علي ساعات الهبوط بعثراتها ، والتأمل في صفاء السماء ، أو حجرات الغيمات في ظلالها البعيدة ترميها علي الأرض ، تحيل لون الجبل إلي الداكن ، وتنسل بين الأشجار تهز من استواء الكتلة ، التأمل و التبصر والنظر بالدقة كلها يحول بينك وخوفك المستور في صمت يلف الطائرة ، مره نكون ثلاثة والطيار رابعنا ، أو خمسة هو السادس ، لا مساعد ولا يحزنون ، وبين التأمل والانتظار تأتيك الأفكار السوداوات ، ماذا يحدث لو حدث له أي حادث ؟ نصبح جزء من حكايات في حادث طيران مروع ، تطردها بسرعة وتذهب تبحث عن غفوة ، ولا يمكن ، الطيران إلى المدن الحبيبة في الجنوب أيامي تلك كان فيه من الدوافع غير المخاطر
أنك تذهب بمحبه ، ما أن تتذكر ما ينتظرك حتي تلمع الابتسامة المنتظرة ، ويخفق قلبك بالسعادة . هل تبدو الأسئلة الملحاحة الآن في حسنها ؟ وهل مواقيت الفرح المشرئب للحدوث ممكن ؟ وأنت في داخل أنبوب من الحديد الخفيف وغيره من مواد الصناعات الأساسية التي تدخل في هيكل الطائرة ومقاعدها غير الوثيرة ، سبحان الصانع البديع أنظر لفروقات الأشياء ، مثل البشر ، وأحيانا أدق ، طائرتي الأخيرة التي أخذتني بين مطار ( دبي ) إلى ( سيول ) مقعدي غرفة ، فيها كل شي ، إلا ( الفسحه ) أمامها ، وظلال ( السباليق ) علي رأس البيت ، وعود من ( المُروق ) ما قبل بالمساواة مع الآخرين فبرز مثل ( الصباع ) الذي يتوسط كف ممدودة للسلام ، وهو كذلك علي رأس البيت يمتد لسان ينظر إلي المطر المنهمر ويقول وترد الأبنية الخائفة من اهتزاز جنباتها من الرعود .
( المرق أنكسر وأتشتت الرصاص ، وأنا ما بنكسر الليلة بالهين ، كانت جيتي يالموية بي فوق و بي تحت سيل ، ياني واقف عديل مثل النخيل ) .
غرفتي أو مقعدي في الطائرة الفخيمة لا تهتز ، فيها كل ما تحتاجه في رحلة تمتد لأكثر من اثنا عشر ساعة في الفضاء ، حيث لا تعرف ما تحتك، وتدرك أنك في الرحمة الواسعة غير بعيدا عن قبة السماء . طائرتي تلك فيها عوالم كثر ، مقهى ومطعم وبعض بستان ، نعم أزاهير جمالها حاله ما مثلها شي ، ورده حمراء ، وأطراف الأخرى بنفسجي ، مثل عيون أطفالي ساعة استقبالي علي مدخل قرية الأطفال SOS في ملكال حاضرة أعالي النيل ، المديرية القديمة بكل الحدود الدولة ، وأنا أتأمل في حديقة مقعدي الحية تهتز الصورة و تتبدل ، الوردة الآن خارج الطائرة الصغيرة ، وردة يافعة خرجت بين الحشائش ، ونساء في جمال الأشجار الصبايا وقفوا لمنظر الطائرة تجري علي مهبطها الأسود في مطار ملكال . الورود كثيرة بين الحشائش ، والنساء المفعمات بالسعادة المستترة وقفن لقدومها ، وقدمي تلك الظهيرة نهايات الصباح كانت تعطرها نسائم فيها من روح النهر ، وما تركته الأبقار وهي تعود مسائها المليء بالحكايات إلى صغارها ، يختلط بالماء والحشائش ، تأخذه الريح ، يحلق حين تدخل ساعة نزولك الدرج الصغير ، فتعود تتذكره أينما ذهبت . وعلي عجل تأخذني العربة نحو القرية ، أنا علي عجله من أمري أكثر من ذي قبل ، نبدأ في هذا الظهر أولي لقاءات مشروعنا الكبير ( مساعده الأطفال المجندين السابقين ) أدخل بعد ساعة علي أكثر من أربعمائة شاب ، كانوا أطفالا يوم أخذوا عنوه لفصائل المحاربين الكبار الراشدين إلا في فعل الحرب ، قال ( جون ) وهو الأكبر سنا بينهم ، وكان يحكي دائماً وأنا أحب الحكايات ، نتبادل في أوقات المساء مع انقطاع الكهرباء حكايات ، مثلي عشق الزمان الذي مضي وله بعض أحلامي لغدٍ جديد ، فيه ضوء غير بعيد ، يحتاج إلي وصوله فقط ، و همّه في الذهاب . في العتمة حين تظلم نجلس في فناء القرية ، أضع ما تبقي من جسدي الواهن من نهار أتجول فيه راجلا بين الأماكن التي أعشقها في ملكال ، وتعزيني لحظات الوقوف أمام النهر ، الماء وفير لكن ورده النيل أكثر ، تحيل لونه الزاهي الرقراق الممتد الذاهب علي عجل نحو الشمال إلى خضره ما تحبها لأنها تخفي عنك سطح النهر والماء الدفاق . وحكاياته فيها بعض أطراف تحتاج إلي شجاعة الأسد لتكمل الاستماع إليها . قال وما تبقي من ساقي المسند علي أطراف المقعد الأخر غير بعيد ، أحاكي في جلستي تلك من تعلق بين ساقي شجره ، وما قد كان كان . ملكال أمسياتها بهذه العزوبة ، فكيف حكايات طفلي والشاب والمجند السابق ؟
( أبا علي ده ما الحكاية داك الأول ده واحد جديد )
الجيم عنده تسمعها مختلفة ، تبذل جهود وحباله الصوتية تهتز مع اندفاع الهواء الخارج من قصبته الهوائية بلا معاناة ، تخرج جيما تلفها نغمات آخري مستخرجة من وعيه بقيمه سلامة النطق ومخارج الحروف ، فجيم ( جون ) كانت عندي في وضوح القمر ، وصلابة الحديد ، جيم( جون ) خرتيت يصارع في شجره كبرى ظنها من ظلها جاموس البراري ، خاض معركته مع لا موجود ، لكنه العناد ، معركة تدور بلا سبب ، وجيش بلا خيول أو جنود ، فقط ظلال كل شي ترتمي بعد الظهيرة علي فضاء ما .
وجيم ( جون ) تقول :
( أبا .. أنا وقت مشيت الحرب كنت صغير ، يعني كيف ما تقول إنت ولد ديرفون ، عمري كان تمنيه سنه ، أنت ما تصبر أنا جايك في الكلام ، أبا .. أنا بقول الصاح ، و حاتك أنت )
وضحكت من قسمه لأنه ضحك يوم كنا نجالس أمي ( مريم ) التي حكيت عنها في دهاليزي عن مدينتي التي أعشق ، تجلس في السوق لتصنع الشاي وقليل من القهوة لا أمثالي وطلباتهم المستعجلة ، وتحكي وهو ( جون ) صاحب الجيم المتعطشة للمعرفة جواري ، تجلس علي مقعدها الخشبي لا يسندها إلا عشقنا لها ولحظات تريح الخواطر والأجساد من تعب المشاوير بين محطة المياه الجديدة ومركز التدريب المهني والميناء النهري حيث البرودة تحت الأشجار و (عبدون ) رئيس البحارة يشّمر عن جده ويطلق في فضاء الميناء القديم صوته القوي ، أظنه من نداءاته المتكررة في البواخر علي البحارة خاصة الجدد ، وأمي ( مريم ) تعمل علي أن تخرج قهوتي هذه المرة مختلفة ، وتحكي تقول وبسمتها تبدأ كالعادة الحديث :
( يا ولد وحاتك أنت سفرك الكتير ده ما كويس ، ما خلاص قلت ليك أقعد معانا ، عندي بيت في حي ملكيه ، بكتبوا ليك ، عفيته ليك ، شرطا تعرس وتجيب عيال ، بعدين وكتين ألقومه تغلبني يسندوني وأقول ليهم كتر خيركم يا جنا حشاي ، عليك الله كان تسافر تأني في الطيارات الصغار ديل ، ما تحرق حشاي ، هاك أشرب ده التني ، أخير ليك علي الجوع ، ما تشرب قهوة قوية ، التني بعدل راسك . وده شنوه كمان البقيت سايقة زي الديدبان محل ما تمشي مباريك !؟ ولد منه ده ؟ )
وأعلم أن معركة صغري بين الأسماء والقبائل والإباء والأمهات ستنشاء في الحال .
( جون ) يتمسك جدا بانتمائه القبلي ، وهي تظن وكما هو حقيقة أنها ملكة كانت . وستكون في أيامها القادمات ،وأسمها جمع بين الأحلام في ملكها القديم الذي ذهب والآتي ، ( مريم المجدلية ) ، و( مريم القادمة ) ، تحكم بحكمه النساء ، و ورع المحبة أيامنا المقبلات . هكذا كنت أفهم أسمها ، ولماذا تردد بين الوقت والآخر ، تصف حدود ملكها ، من فشوده إلي حلفا ، ومن الجنينه إلي عيزاب ، فقلت أجابه الأمر الذي أتوقعه حدوثه بتوفير المعلومات عن ابني الشاب ( جون ) قلت لها وأنا أخذ فنجاني الثاني وفي عينها انتظار ، حكيت وتركت لذكائها التفاصيل ، تفهم المعاني قبل الجمل ، وذكائها الأجمل في خصائصها الإنسانية .
قالوا بعد أن شرحت لهم الأمر وكنا في وسط المعسكر الذي يتوسط المدينة غير بعيدا عن النهر ومكاتب الحكومة ، هو ما تبقي من مبني ، كان شي ما ، يقف في صف المنازل ، أو مبني للإدارة ، الطوب الأحمر غير الذي تعرفه الآن ، والسقف في شكل ظهر الثور يميل و يصنع في الأعلى نهايات الرقم سبعه ، القرميد أحمر ، الحشائش التي تنبت في أي مكان وجدت طريقها إلى السقف المتهاوي مع جزء جدار يجعله نصف مبني . قبلت به وفرحت لما بدء أبنائي الشباب الأطفال المجندين السابقين في أعادة تنظيمه بسرعة ، جعلنا لنا جدار يفصلنا ولو قليلاً عن الآخرين ، مفتوحا كان السور في المعسكر أشارة إلي أننا لا نتحول إلي محبوسين ثانيا . أنا سجين فكرتي بأن الطفل الذي أدخل في الحرب ، وعاش أيامها ، ينبغي أن يعود ليندمج في المجتمعات المدنية . لكن كيف السبيل إلي ذلك ؟ والأمر عصي ،كل الأفكار عندهم غير منطقيه ، القتل ، العنف الأقرب في التصرف عند كل أذمة وأن صغرت . وجلست في كل ظهيرة احكي لهم ، احترت في أصل الحكايات ، كانوا في الأول قد امتنعوا عن الدخول في برامج مشتركة ، كل طفل وشاب من قبيلة أو فريق عسكري معين يلتصق أكثر برفيقة الأقدم ، لا شراكة أو قبول للأخر ، ولا في لحظات الطعام أو النوم . وكيف يدوم هذا الحال ؟ فكنت أذهب إلي أمي ( مريم ) في السوق ، تحكي قصص من الماضي ، فيها عناصر تشير إلي أهمية الاتفاق ، والوحدة ، والتنوع وقبول الأخر ، بها أغنيات عزبة ، لحونها وضاحة ، بسيطة ، أحياناً تتعقد في انتظار المفاتيح الصوتية ، تدندن ، وتخرج الأصوات بين لهاتها وتصل أول لسانها مثل صهيل خيول في بوادي ، و طيور في خدورها ، ونساء يبحثن عن الفرح بين سياط الحزن من أثر الرحيل ، و احتراب الرجال ، و العشيرة الكبيرة تنقسم علي ذاتها ، ( خشوم بيوت ) ، وتتنازع مصادر المياه ، والنهر كبير ويتسع كل يوم بفضل ماء السماء ، وينابيع الأرض ، والصخر الصلد يخرج بين تشققاته ماء ، و إي ماء ؟ حلو صافي ناصع يرد الروح وتدفع في الدماء المزيد ، هكذا كانت أغنيات أمي ( مريم ) وحكاياتها ، تساعدني بمحاكاة الشخوص في الحكاية ، اسمع لها تغير في نبرات صوتها الشاب اليافع الفتي يوم تحكي عنهم ، أتخيلهم في جلوسهم حولي ، وتلك هي اللحظة التاريخية الوحيدة والتي بداء يجلس كل من في المعسكر حول نار تضئ ولا تحرق ، في ظلالها تبدو الشخوص المزدانة بالفرح من أثر الحكايات ، أجلس في الوسط ، وتتسع الدائرة ، دون أن ندري أطلب منهم وأنا احكي أن نتماسك بالأيادي ، نرفعها عالية ونرسم في الفضاء ، وتعيد النار رسم ظلاً خلفنا علي الضوء المحمر ، دائرة كبري من الألفة . واقف في وسط الدائرة أعيد من تمثيل بعض الأدوار ، أطلب عشوائياً دون تحديد أحدهم ليقف أمامي ، أقول (أنت فلان ، وأنا الأسد ، وذاك الناحل الغزال الذي يحاول الأسد أخذه ، وانتم يا شباب أهل البلد التي عانت من غزوات الأسد ، وأنا حكيم القرية ، و الكجور ، والساحر ، وشيخ القبيلة ، أسألكم أن تتوحدوا ، وأن تكون الحراب في مواجه الأسد ، فقط الأسد ، تذكروا عدونا الأسد ولا أحد غيره ، و مطلبنا أن نعيد للغزال الجميل سيرتها الأولي ، تعود تلعب إلي جوار أمها وإخوتها ، لا يزار الأسد في أرض قبيلتنا إلا ونكون أقرب إليه من أطفالنا ). و يتقبل الجمع أداء المشهد التمثيلي ، ويندمجوا في المشاهد ، وتأتي الواحدة بعد الآخري تتسلسل دون عناء ، هذا ارتجال وفن تلقائي . وأعود في ذاك المساء لضوئي الخفيض ، كنت أسجل يومياً ما يحدث ، وأكتب أول حرف ( مسرح بين الحدود ) ، نعم كانت بيننا جميعا حدود يصنعها ديني ودينك ، قبيلتي وقبيلتك ، لغتي ولغتك ، كلها حدود ، ما استطاعت أن تساعدنا علي عمل مشترك في معسكرنا المفتوح للأطفال المجندين سابقاً ، جمعناهم نعم ، ولكن لم نتمكن من أن نخلق بينهم رغم الماضي المتعثر الملئ بلحظات العنف والحرب أي رابط ، ظلوا لفترة علي ذات الفكرة ،كل بعيدا عن الآخر ، فكيف لي أن أنجح في دمجهم وإعادتهم للمجتمع المدني من جديد ؟ بعد أن غابوا عنه لسنوات في الغابات ، بين معسكرات الجيوش. وكان مشهدي التمثيلي والحكايات الشعبية سبيلا لفهم مغاير للتعايش . وفي الغد كانت رسالتي للخرطوم تبحث في بدايات العمل ، والفكرة تبدو أفضل من أولها ، مسرح يبني جسوراً بين الآخرين ، يقف بين الحدود ، ويوصل بين الآخرين ، وجاء عوض شكسبير ومحمد صالحين وإمام حسن الأمام ، وجلسنا نبحث في الأمر ، وأدخلنا الرقص الشعبي وأغنيات ، غنّي الدينكا مع الشلك أغنيات النوير ، ورقص أهل الملكية مع أنغام جديدة صنعتها اللحظة ، جلست أكتب الكثير ، وقلت :
( استخدامات الفنون الأدائية في تعزيز السلام وبناء الحوار والتعايش السلمي )
وكثير في الذي كتبت في أوراقي يطوف عوالم الدنيا ، يطرح مشروعاً علميا فينا جديدا ( المسرح في مناطق الصراع ) تجربة تكتمل بشراكة مع مبدعين من ( ألمانيا وتركيا وفلسطين وباكستان ) . و يعود الكواكب الإحدى عشر من ( اشتوغارد ألمانيا ) هيئاتها الثقافية تدعم المشروع ، وينتشر أعضاء مسرح البقعة ( مركز المسرح في مناطق الصراع ) في أنحاء الوطن ، من امبده الأقرب إلي نيالا ، إلي حجر سلطان في جبال النوبة ، إلي الفاشر أبو ذكريا ، إلى ألجنينه . قالوا شهد عرض ( الفرجة بين سنار و عيذاب ) في الجنية في مساء جميل من رمضان قبل الذي مضي أكثر من ثمانية ألف متفرج ، ظني أنه العدد الأكبر من جمهور يلتف حول عرض مسرحي يبعث في رسائل تخفف من حدة الخصام الوطني ، والي عطبره ومدن آخري وفضاء الخرطوم الوسيع ، كلها كانت تنظر بالتقدير إلي تجارب مسرح البقعة و ( المسرح في مناطق الصراع ) . وسحابات السماء تأخذ النظرية والتطبيقات العملية إلى فضاء الكون ، عروضاً وأوراق عمل و ورش فنية من ( لاهاي ) غربا إلى ( دكا ) شرقاً والي مدن الغرب الأمريكي الأقرب وباريس . وتوفد ( اليونسكو ) من يدرس ويوثق وتصدر كتابا مطاع العام القادم ، والإذاعة البريطانية ال BBC تبعث بوفدها الكبير للمشاركة في الدورة العاشرة لأيام البقعة المسرحية مارس الماضي ، تدرس وتسجل ، بث مرئي ومسموع ، والسيدة السودانية المتميزة المذيعة البريطانية الأجمل والأكثر حضورا (زينب البدوي) تدير حواراً تبثه القناة الرابعة ، ويسعدني لقائها . والآن أنظر إلي حلمي ما بين وقوف الطائرة الصغيرة في مدرج هبوط الطائرات الكبير في ملكال و إحتفاء المسرح العالمي بالتجربة والمنهج والعروض ثم النتائج في مجالات استخدامات الفنون الأدائية في السلام والتنمية ،المسافة فيها أجمل عشق للطفولة ، وحلما بالسلام ، وفرص منها تنتج فكرا وفنً يسهم في رفاه الإنسان .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.