بغض النظر عما ارتكزت عليه الحركة الشعبية من مقدمات تاريخية صحيحة حول وحدة السودان وما افضت إليه من نتائج ذات ابعاد عرقية وعنصرية تتناقض مع تبني التحوّل الديمقراطي المُحقق للإرادة الشعبية التي تصون حقوق الإنسان . . ويبقى المحك هو تنزيل هذا الطرح الليبرالي في الجنوب حيث تجأر المعارضة الجنوبية بالشكوى من استئثار الجيش الشعبي بالساحة السياسية ومحاولة إرغام القوى السياسية الأخرى على الخضوع لسلطة الدينكا التي بدأت تأخذ ذات أنماط الهيمنة المرفوضة في الشمال . . فلا يستقيم أن ينعتق الجنوب من هيمنة «الجلابة» ويدخل في عصر استئثار «الدينكا» بالقرار، وهذا ما حاول مؤتمر الحوار الجنوبي الجنوبي تلافيه مؤخراً بالدعوة للحكومة القومية والانتخابات المبكرة في الجنوب . أيّا كان خيار الجنوبيين وحدة أم انفصالاً فإن مصالح الشمال تكمن في استتباب الأمن والسلام والاستقرار بالجنوب والأمر هنا مرتبط بمصالح اقتصادية في المقام الأول بعيدة تماما عن حسابات السياسيين الضيقة فأي توتر أمني سيضر بمصالح الشماليين فضلاً عما يسببه من عرقلة لمشاريع التنمية وإعادة الإعمار بالجنوب التي يتطلع إليها القطاع الخاص ويتحسب لتمتين الشراكة الاقتصادية وفتح مجالات الاستثمار الواسعة التي تعود بالنفع على الشعبين، فلم تعد أكلشيهات رفع العلم وعزف النشيد الوطني «لجمهورية الأماتونج» تشغل الشماليين فهي تحصيل حاصل وتعبير عن الواقع الذي افرزته نيفاشا . . فالمهم هو ان يدرك ساسة الجنوب ما تؤدي إليه فرقعاتهم الإعلامية من توتير للساحة ومن ثم احجام المستثمرين عن المخاطرة بأموالهم في تنمية الجنوب. ومهما يكن من شيء فإن المراقب لأوضاع الجنوب يلمس نظرة واقعية عند القائد سلفاكير، ففي تصريح أدلى به لمجلة «نيوزويك» نقلته صحيفة الشرق الأوسط قال: (اعتقدت دائماً أن أمريكا يمكن أن تفعل أي شيء . . لكن، في حالتنا، لا يحدث ما يؤكد ذلك . . إنهم مشغولون بالتزامات أخرى كثيرة) . . ولكن ليس معلوماً مدى تغلغل هذه الواقعية في التيارات المتصارعة داخل الحركة الشعبية فلدى الكثيرين جموح وتحفز دائم للإستقواء بالخارج لحسم صراعات الداخل مما يقوى احتمالات الصدام . . وإن سلمت جمهورية الأماتونج من سيناريوهات المواجهة العسكرية وأجندات تجار الحرب الدامية فإن الوضع يتطلب الكثير من الجهد والفكر والوقت لتقف الدولة الوليدة على قدميها . . هذا مع الأخذ في الاعتبار لرؤية المراكز الأمريكية المعادية لحكومة الرئيس البشير لمستقبل الجنوب حيث نقلت مجلة «نيوزويك» تساؤل مدير مركز «إيناف» (كفاية) جون بندرغاست بقوله : (ما فائدة استخدام كل هذا الدعم لبناء الدولة إذا كانوا ذاهبين إلى الحرب ؟) مضيفاً (هذا مثل بناء قلعة على الرمل مع توقع موجة عملاقة تتجه نحوها) . . وربما تكون نظرة الأمريكان «لجمهورية الأماتونج» متشائمة بعض الشيء . . وعلى أية حال الله يكذب الشينة .