في إطار اهتمامي بقراءة الكتب ومشاهدة الجيد من الأفلام السينمائية، أجد نفسي أحياناً مشدوداً إلى استعادة قراءة كتاب ممتع أو مشاهدة فيلم جيد لعدة مرات، بذات متعة القراءة أو المشاهدة في المرة الأولى. ولعلَّ هذا ما دفعني إلى إعادة قراءة كتيب «اليهود في السودان.. قراءة في كتاب الياهو سولمون ملكا»، وهو الكتاب الذي قام الكاتب الصحافي مكي أبو قرجة بعناء استعراضه وترجمة أجزاء منه بمهنية رفيعة. ويشير الأستاذ مكي إلى تقرير لمخابرات الإدارة البريطانية بالسودان عقب سقوط دولة المهدية، أُفرد فيه قسم خاص لليهود فى السودان، إذ تم الإفصاح عن الاسم الأصلي لكل منهم، والاسم الذي فرضه عليهم دخولهم أو إجبارهم على اعتناق الإسلام في عهد المهدية. وجاء تقسيم يهود السودان في التقرير إلى أربع مجموعات أكبرها في الخرطوم «خمس أسر» ، ثم كردفان «أسرتان» وبربر «أسرة واحدة» ثم كسلا «أسرة واحدة». ففي الخرطوم كانت هنالك أسماء موسى بسيوني، إسحق بسيوني، إبراهيم إسرائيل، خُضير ونسيم حيفاس.. وفي كردفان هناك داؤود منديل وجوزيف سليمان، أما في بربر فيجيء اسم مراد بيسي، بينما في كسلا نجد اسم المليح زابت. وقد أعادني اسم «بسيوني» إلى أيام الطفولة الغضة فتذكرت الدكتور/ سليمان بسيوني الذي لم يكن منزله «وربما عيادته» يبعد كثيراً عن منزلنا في حي البوستة بأم درمان، إذ كان يقع في ما كان يعرف ب «فريق اليهود» في ذاك الوقت، وهو حي صغير ينحصر ما بين مستشفى التيجاني الماحي غرباً وجامع الخليفة شرقاً، ويحده شارع العرضة من الجهة الجنوبية. وفي هذا الشأن.. شأن أسرة بسيوني مضى الكاتب يقول «كان بسيوني الأب متزوجاً من امرأة يهودية، إلا أن ذلك الزواج لم يعمر طويلاً، وبعد «إجباره على دخول الإسلام» في عهد المهدية تزوج من امرأة سودانية من سلالة مواليد الخرطوم أنجب منها أربعة أطفال.. نعيمة وإيستر وديفيد ثم د. سليمان الذي أصبح واحداً من أشهر أطباء السودان، وأظنه تولى منصب حكيمباشى مستشفى الخرطوم ثم هاجروا جميعهم ما عدا ديفيد الذي مات بالخرطوم إلى إسرائيل عبر أريتريا وهناك أعاد الدكتور اسم عائلته القديم فأصبح بسيوني «بن سيون كوشتي». أما عن سليمان منديل فقد استقرَّ بأم درمان ولم يرتد عن إسلامه بعد زوال دولة المهدية، وفي نظر مؤلف الكتاب «إلياهو سولومون» أن السبب ربما يعود إلى أن شقيقاته كن سُمر البشرة لأن والدتهن سودانية، وبالتالي لن يجدن أزواجاً من اليهود البيض. وفي اعتقادي أن هذا المبرر فيه قدر من التحامل والتعصب الديني بحكم تزمت المؤلف لديانته اليهودية، فهو ابن «سولومون ملكا» كبير حاخامات الجالية اليهودية بالسودان في أربعينيات القرن الماضي، ومما يعزز هذا التحامل من المؤلف على أسرة منديل بسبب تمسكها بالإسلام ما أورده الأستاذ أبو قرجة «المترجم» عن أحد أبناء الجيل الثاني من أسرة منديل، وهو الأستاذ داؤود سليمان منديل الذي عُرف بنشاطه الصحفي، حيث كان أول من أصدر الجريدة التجارية، ونشر الوعي الاقتصادي. وعندما اندمجت «الجريدة التجارية» مع مجلة «حضارة السودان» تحت مسمى «ملتقى النهرين»، بات داؤود منديل صاحبها ورئيس تحريرها، وقد عمل معه الشاعر التيجاني يوسف بشير، واهتم داؤود منديل بالتراث السوداني، وكان أول من طبع الدوبيت السوداني وراتب الإمام المهدي وطبقات ود ضيف الله والكثير من الأدب السوداني. ويجنح بنا المترجم «مكي أبو قرجة» إلى كتاب صديقنا شوقي بدري «حكاوي أم درمان» حيث يروي شوقي أن «إلياهو بن اليسار» أول سفير لإسرائيل بمصر كان من سلالة يهود السودان، حيث كان أثناء دراسته بجامعة الخرطوم عضواً نشطاً في الحزب الشيوعي السوداني، وكان كادراً نشطاً يجيد تحريك ماكينات الطباعة السرية الخاصة بالحزب، وتوزيع المنشورات المناهضة لدكتاتورية عهد عبود..!!