«في ذات مرة التقت ثلة من أولاد فصلنا في خيمة الأنصار في المولد. وكان صلف المورداب واستهانتهم بنا قد بلغت من أنفسنا مبلغاً عظيماً أثار فيها قدراً كبيراً من عدم الرضاء وإحساساً بالضعف والهوان، كبر على إبائنا ضيماً أن يتقبله ويذعن لما يمكن أن يترتب عليه من «ملطشة» وصَغار. فخلصنا نجياً نتفاكر في هذا الأمر، ونتدبر مخرجاً يحفظ علينا كرامتنا بين الناس. وكان بين ظهرانينا الصديق الحاج محمد عثمان إبراهيم «الكبتل»، وهو ألفة الفصل، وكان طويلاً تليعاً يكبر زملاءه ببضعة سنوات دون ريب، ولذلك انعقد له لواء الزعامة، وبايعه حتى الصقور على القيادة والريادة. قال لي الكبتل في ذلك المساء بصوت مرعد واثق وروح مقدامة غير مبالية: إلى متى نحن نداهن هؤلاء القوم وهم يمعنون في الصلف والكبرياء؟ وإلى متى نسكت لهم على هذه الحقارة وهذا الاستخفاف بنا؟ ألسنا رجالاً مثلهم؟ قلت له: وما العمل وواحدهم يستطيع أن يصرع ثلاثة أو أربعة منا دون عناء يذكر؟ قال لي: فلنذهب إليهم ذات أمسية في عقر دارهم ونتحرش بهم لننزل بهم هزيمة لن ينسوها أبداً تكون لنا عيداً ومفخرة، وتضعنا في مكاننا اللائق. فلما رأيت حماسته وصادق استعداده للنزال وافقت على الخطة، ووافق الآخرون. وحددنا الموعد، فاجتمع ستة نفر منا كلهم عتاة ما عدا شخصي، فقد كنت اقلهم شأناً في هذا المضمار الذي تؤهل له بسطة الجسم دون غيرها. وفي المساء المحدد حملنا بعض العصي الخفيفة وذهبنا إلى الموردة. فإذا بجمهرة من غرمائنا منبطحين على الخور غير بعيد من نادي الموردة الذي كان قريباً من حي الهاشماب في تلك العهود. ولما بلغناهم بدأناهم بالتحية فلم يحفلوا برد السلام وكأنهم علموا بأمرنا وما بيَّتنا عليه النيِّة. وبعد قليل صاح أحدهم بنا وهو منبطح على حافة الخور مثل الورل قائلاً: ماذا تريدون هنا؟ فرد عليه الكبتل في ثبات أضفى علينا روحاً من الجرأة والاستبشار بالنصر: نريد رقابكم وأنفاسكم. وكانت كل خلجات نفسه تنشد في إرادة وتصميم: ألا ليست الحاجات إلا نفوسكم وليس لنا إلا السيوف وسائل ثم هجم عليه بعصاه الصغيرة، وفعل ذلك بقيتنا على من كانوا معه. ودارت بيننا معركة حامية، وثار النقع وارتفعت العجائر بالسباب. وبان لنا بعد قليل أننا نجالد عمالقة وعتاة لا قبل لنا بهم، فسرعان ما طارت هراواتنا من أيدينا، وضيق علينا القوم الخناق، حتى صاح الكبتل قائلاً: الهرب والنجاة! وبدأ سباق «الماراثون» إذ أطلقنا سيقاننا للريح وفي مقدمتنا الكبتل قائد الحملة وصاحب فكرة الهجوم المباغت، ومن ورائنا أولئك العتاة الضخام المتمرسون، يشيعوننا حصباً بالحجارة ورشقاً بالشتائم وتعييراً بسبة الفرار. يكادون يمسكون بتلابيبنا من فرط قربهم منا، ونحن نعدو عدواً ننتهب الخطى انتهاباً ونطوي الأرض طيَّاً. وما هي إلا لحظات حتى بلغنا جامع الخليفة، وهم من ورائنا حذو النعل بالنعل توشك أيديهم أن تمسك برقابنا فتفصل الرؤوس عن الأجساد. وما أن بلغنا ساحة المولد التي كانت تعج بالناس حتى انخنس بعضنا وانزوى في حلقات الطار وصفوف الذاكرين، وبلغت أنا خيمة الأنصار بعد جهد جهيد لأجد صديقي الكبتل هناك وأنفاسه كأنها مرجل يغلي. وفي ذلك الجناب الآمن تراجع عنا من بلغ منهم في مطاردتنا تلك التخوم، فقد علموا يقيناً أن من بلغ تلك العرصات واحتمى بها فهو آمن، وأنبأهم إحساسهم الصادق أنهم إن أوغلوا أكثر من ذلك فستكون عاقبتهم خسراناً مبيناً. أما الكبتل فقد كان في حالة من الهلع لم يشعر معها أنه أصيب بفككٍ في قدمه اليمنى جعل خاله عم محمدين يحمله إلى ود بتي في اليوم التالي، وظلت خطاه تتعثر من ذلك الفكك رغم تطبيب ود بتي أياماً وأسابيع، حتى شفاه من ذلك الشافي. وبلغ أمرنا زميلنا محمد العوض مصطفى «عليه رحمه الله» كما بلغ غيره. ورغم أن محمد العوض صاحب الخيال الخصب والروح المرحة قد نسج حول هذا الحدث الأقاصيص التي بهدلت سمعتنا في نظر التلاميذ، إلا أنه في نهاية الأمر، وبعد تدخل بعض الصقور في فصلنا لصالحنا قاد جهداً جباراً انتهى بمصالحة بيننا والمورداب ما وسعنا إلا أن نتقبل شروطها المجحفة مذعنين، وأهمها أن نعلن تعهدنا بالامتناع عن الذهاب إلى حي الموردة لأي سبب من الأسباب، وإن فعلنا ذلك حنثاً بالعهد فلا نلومنَّ إلا أنفسنا. وقبلنا هذا الشرط على مضض منا، وسلمنا لهم بالنصر ونحن نلعق جراح الهزيمة. ولكي أعبر عن حنقي قلت للكبتل أمام الجميع رغم أنه كان عزيزاً علي أن أؤذيه: ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير ولست أدري إن كان قد فهم مقصدي أم لم يفهمه، لأنه لم يزد على أن ضحك ضحكة قصيرة، ثم اعتدل «النقرابي» الذي كان على خده، فصارت تعابير وجهه لا تثير في نفسك أو توحي لك بأي معنى من المعاني! ولقد أسرَّ لي محمد العوض فيما بعد أن الكبتل قد فهم مقصدي، ولكنه تصنع العيّ «والتلامة» حتى لا تتوالى عليه العبارات مذكرة بمرارة الانهزام». ٭ من كتاب «صدى السنين ..الجزء الثانى» للدكتور الأديب موسى عبد الله حامد، متعه الله بالصحة والعافية.