المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    بيان هام من السفارة السودانية في تركيا للسودانيين    "بناء الدولة وفق الأسس العلمية".. كامل إدريس يدعو أساتذة الجامعات للاسهام في نهضة البلاد وتنميتها    مونديال الأندية.. فرصة مبابي الأخيرة في سباق الكرة الذهبية    نبيل عبد الله: قواتنا بالفرقة 14 مشاة صدّت هجومًا من متمردي الحركة الشعبية بمحطة الدشول    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    بلاغ بوجود قنبلة..طائرة سعودية تغيّر مسارها..ما التفاصيل؟    أكثر من 8 الاف طالب وطالبة يجلسون لامتحانات الشهادة الابتدائية بسنار    كيف تغلغلت إسرائيل في الداخل الإيراني ؟!    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    أردوغان: الهجوم الإسرائيلي على إيران له أهداف خبيثة    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    فيكم من يحفظ (السر)؟    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخلاف في اتفاقيتي مياه النيل لعامي 1929 و 1959م
بعض الجوانب القانونية لانفصال جنوب السودان «33»
نشر في الصحافة يوم 09 - 11 - 2010


1- مدخل
نود في مستهل هذا المقال أن نؤكد على حقيقتين أولهما: أن قسماً كبيراً من حوض النيل يجري في إقليم جنوب السودان. فبعد نيل فكتوريا ونيل ألبرت وابتداءً من نيمولي يطلق على النهر اسم بحر الجبل. وشمالي منقلا يدخل بحر الجبل مستنقعات تعرف بمنطقة السدود. وفي حوالي منتصف هذه المنطقة يتفرع بحر الزراف عن بحر الجبل ويتخذ مساراً مستقلاً إلى أن يلتقي بالنيل الأبيض. وحري بالذكر أن بحر الجبل يفقد نصف إيراده السنوي في منطقة السدود. ويجري كذلك في إقليم الجنوب حوض بحر الغزال الذي يتغذى من الأنهار الصغيرة التي تنبع في مرتفعات الكونغو وإفريقيا الوسطى ومن الروافد الجنوبية لبحر العرب. ويلتقي بحر الغزال مع بحر الجبل عند بحيرة «نو»، ويتكون منهما النيل الأبيض. وجنوبي ملكال يلتقي النيل الأبيض بنهر السوباط القادم من الهضبة الاستوائية.
أما الحقيقة الثانية التي ينبغي أن نفهمها جيداً، فهي أن كل مشاريع استرداد المياه الضائعة ذات الجدوى التي يمكن القيام بها مستقبلاً موجودة في إقليم جنوب السودان. فكميات كبيرة من المياه تضيع في مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وبحر الغزال ونهر سوباط عن طريق التبخر والنتح والتسرب والانتشار. وقد ورد في خطة وزارة الري الرئيسة لعام 1979م أن حوالي 42 مليار متر مكعب من المياه تفقد سنوياً في إقليم جنوب السودان. فحوالي 14 مليارا تضيع في مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف. وتضيع في حوض بحر الغزال حوالي 12 مليار متر مكعب. وتقدر كمية الفاقد في حوض السوباط ومستنقعات مشار بحوالي 19 مليار متر مكعب.
2- اتفاقية عام 1929م:
إن لاتفاقية عام 1929 تاريخا طويلا. ويكفي أن نذكر هنا أنها قد أُبرمت في إطار مصالحة سياسية بين مصر وبريطانيا بعد أحداث ثورة 1924م في السودان ومقتل سيرلي استاك حاكم السودان العام وسردار الجيش المصري في القاهرة في 19 نوفمبر 1924م، وبسبب هذه الأحداث وجه المندوب السامي البريطاني في مصر اللنبي في 22 و23 نوفمبر 1924 إنذاراً إلى رئيس وزراء مصر سعد زغلول تضمن بنداً بأن الحكومة البريطانية قد أصدرت تعليمات إلى حكومة السودان بأن لها مطلق الحرية في زيادة مساحات الأراضي المروية في الجزيرة من 300.000 فدان إلى مقدار غير محدد وفقاً للحاجة. وكان اللنبي قد تعهد في سنة 1920م للحكومة المصرية بأن مساحة الأراضي المروية في الجزيرة لن تزيد عن 300.000 فدان.
وعلى كل حال، بعد عودة العلاقات الودية بين مصر وبريطانيا، طلب رئيس وزراء مصر في 25 يناير 1925م من الحكومة البريطانية إعادة النظر في تعليماتها إلى حكومة السودان بشأن توسيع نطاق الري في الجزيرة حتى لا يلحق أضراراً بالري في مصر. وإثباتاً لحسن نواياها ومراعاة منها لحقوق مصر التاريخية والطبيعية في مياه النيل، أبدت الحكومة البريطانية في 26 يناير 1925م استعدادها لإصدار تعليمات جديدة إلى حكومة السودان بألا تنفذ ما سبق إرساله إليها من تعليمات بشأن توسيع نطاق الري في الجزيرة توسيعاً لا حد له، على أن تشكل لجنة من ثلاثة خبراء لتدرس وتقترح القواعد التي يمكن إجراء الري بموجبها مع مراعاة مصالح مصر ومن غير الإضرار بما لها من الحقوق الطبيعية والتاريخية. وأصبحت تلك اللجنة تعرف بلجنة مياه النيل لعام 1925م، قدمت اللجنة تقريرها في 21 مارس 1926م، ويعتبر هذا التقرير جزءاً لا ينفصل عن الاتفاق بين مصر وبريطانيا بشأن استخدام مياه النيل لأغراض الري. وقد ضُمن هذا الاتفاق في المذكرات التي تبودلت في 7 مايو 1929م بين محمد محمود رئيس وزراء مصر والمندوب السامي البريطاني لويد.
واعترف محمد محمود في مذكرته بأن تعمير السودان يحتاج إلى مقدار من المياه أعظم من المقدار الذي كان يستخدمه آنذاك، وأبدى استعداده لزيادة ذلك المقدار «بحيث لا تضر تلك الزيادة بحقوق مصر الطبيعية والتاريخية في مياه النيل، ولا بما تحتاج إليه مصر في توسعها الزراعي». وفي مذكرة الرد أكد لويد لمحمد محمود بأن الحكومة البريطانية تعتبر المحافظة على حقوق مصر الطبيعية والتاريخية في مياه النيل مبدأً أساسياً من مبادئ السياسة البريطانية.
واتفق الطرفان على «ألا تقام بغير اتفاق مع الحكومة المصرية أعمال ري أو توليد قوى، ولا تتخذ إجراءات على النيل وفروعه أو على البحيرات التي ينبع منها سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية يكون من شأنها إنقاص مقدار الماء الذي يصل إلى مصر أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على أي وجه يلحق ضرراً بمصالح مصر».
وكفل اتفاق سنة 1929م لمصر حق الرقابة على النيل في السودان وفي البلدان الواقعة تحت النفوذ البريطاني. فقد نص بين أمور أخرى على الآتي:
«أ» إن المفتش العام لمصلحة الري المصرية في السودان أو معاونيه أو أي موظف آخر يعينه وزير الأشغال تكون لهم الحرية الكاملة في التعاون مع المهندس المقيم لخزان سنار لقياس التصرفات والأرصاد، كي تتحقق الحكومة المصرية من أن توزيع المياه وموازنات الخزان جارية طبقاً لما تم الاتفاق عليه.
«ب» تلقى الحكومة المصرية كل التسهيلات اللازمة للقيام بدراسة ورصد الأبحاث المائية «هيدرلوجيا» لنهر النيل في السودان دراسة ورصداً وافيين.
«ج» إذا قررت الحكومة المصرية إقامة أعمال في السودان على النيل أو فروعه أو اتخاذ أي إجراء لزيادة مياه النيل لمصلحة مصر، تتفق مقدماً مع السلطات المحلية على ما يجب اتخاذه من الإجراءات للمحافظة على المصالح المحلية. ويكون إنشاء هذه الأعمال وصيانتها وإدارتها من شأن الحكومة المصرية وتحت رقابتها رأساً.
«د» تستعمل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى وشمال ايرلندا وساطتها لدى حكومات المناطق التي تحت نفوذها لكي تسهل للحكومة المصرية عمل المساحات والمقاييس والدراسات والأعمال من قبيل ما هو مبين في الفقرتين السابقتين.
وتشتمل ترتيبات اتفاق سنة 1929م على قواعد تفصيلية بشأن التخزين والسحب من مياه النيل. ويمكن إجمال بعض ما ترتب على هذه القواعد في ما يلي:
«أ» يحفظ لمصر حق الانتفاع بجميع مياه النيل وفروعه في الفترة من 19 يناير إلى 15 يوليو «بتاريخ سنار» باستثناء ما تستهلكه طلمبات الري في السودان.
«ب» يحق للسودان رفع منسوب التخزين بخزان سنار بحيث يسمح بري ترعة الجزيرة في ظرف 10 أيام ابتداءً من 16 يوليو، بشرط أن يكون متوسط مجموع تصرف المياه في ملكال والروصيرص قد بلغ 160 مليون متر مكعب يومياً، وذلك خلال الأيام الخمسة السابقة لهذا التاريخ، مع مراعاة فترة انتقال من ملكال قدرها 10 أيام. ويعرف هذا بالملء الأول.
«ج» يحق للسودان ملء خزان سنار في المدة من 27 أكتوبر إلى 30 نوفمبر. ويعرف هذا بالملء الثاني.
3- السودان يرفض في عام 1958 اتفاقية عام 1929م:
إبَّان الفترة الانتقالية التي سبقت الاستقلال، أجريت مفاوضات مصرية سودانية بشأن مياه النيل لا مجال هنا لتفصيلها. ويكفي أن نذكر أنها انتهت إلى فشل تام وأزمة سياسية بين مصر وحكومة الحزب الوطني الاتحادي التي كانت على سدة الحكم آنذاك.
وتسببت مياه النيل في أزمة سودانية مصرية في عهد آخر حكومة ديمقراطية قبيل انقلاب 17 نوفمبر 1958م، وكان يرأس تلك الحكومة التي كانت ائتلافية بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي، عبد الله خليل. وكان وزير الري فيها ميرغني حمزة.
ففي 2 يوليو 1958م بدأت سلطات الري في السودان في حجز المياه عند خزان سنار لملء القناة الرئيسية للامتداد الجديد لمشروع الجزيرة أي امتداد المناقل. وكان ذلك قبل التاريخ المحدد في اتفاقية سنة 1929م وهو 16 يوليو من كل عام. وفي 9 يوليو بعثت الحكومة المصرية بمذكرة احتجاج لحكومة السودان على الاجراء الذي قامت به سلطات الري السودانية. وجاء في المذكرة المصرية أن تغيير مواعيد الحجز عند خزان سنار يعد خرقاً لاتفاقية عام 1929م، وطالبت بالايقاف الفوري له. وجاء فيها أيضاً أن التوسع في امتداد المناقل سيؤدي إلى سحب كميات من النهر تؤثر على ملء خزان اسوان وحرمان ربع مليون فدان من الزراعة الصيفية وتشريد مليون وربع من الأنفس. وذلك فضلاً عن تعذر ملء سبعمائة ألف فدان من أراضي الحياض وما سيترتب على ذلك من نتائج اجتماعية واقتصادية.
وردت حكومة السودان على الحكومة المصرية بمذكرة بتاريخ 15 يوليو 1958م، وجاء في المذكرة السودانية أن رفع مستوى الماء في خزان سنار مسألة فنية كان ينبغي أن تترك لتعالج بين الدوائر الفنية في البلدين بنفس روح التعاون والثقة المتبادلة التي استقرت منذ استقلال السودان. وأبدت حكومة السودان أسفها لأن حكومة الجمهورية العربية المتحدة لم تترك هذه المسألة الفنية لتعالج في الإطار الفني، بل آثرت تحويلها إلى نقاش حول ما يُسمى باتفاق 1929م الذي لم يكن السودان طرفاً فيه.
وإزاء اتفاق 1929م ذكرت حكومة السودان أنها لم تعترف في أي وقت بأنها ملزمة بهذا الاتفاق، وأن الاتفاق قد أُبرم بين الحكومتين المصرية والبريطانية باعتباره جزءاً من تسوية سياسة عامة بدون اعتبار لمصالح السودان. ثم أشارت المذكرة إلى أنه عند إعلان استقلال السودان طلبت دولتا الحكم الثنائي من حكومة السودان أن تبدي ما إذا كانت راغبة في إعطاء الأثر الكامل للاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمتها دولتا الحكم الثنائي نيابة عن السودان أو طبقتها عليه. وعندئذٍ طلبت حكومة السودان من دولتي الحكم الثنائي أن تحددا تلك الاتفاقيات والمعاهدات لتنظر فيها. وبما أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة لم تقدم اتفاق 1929م باعتباره واحداً من تلك الاتفاقيات، فينبغي ألا تتوقع أن تعطي حكومة السودان أي اعتبار لذلك الاتفاق.
وفي فقرة تالية من المذكرة، أكدت حكومة السودان أنها لن تقبل أحكام اتفاق 1929م كأساس لما ينبغي أن تقوم به أو تمتنع عن القيام به. وبالمثل فإن أي اتهام بخرق اتفاق دولي لن يكون مقبولاً. وقد ظلت حكومة السودان على موقفها هذا إزاء اتفاق 1929م حتى وقوع الانقلاب العسكري في 17 نوفمبر 1958م.
4- موقف دول شرق إفريقيا الثلاث من اتفاقية عام 1929م:
رفضت تنجانيقا عند استقلالها أن توقع مع المملكة المتحدة على اتفاقية أيلولة. وأصدر الرئيس نايريري في الجمعية الوطنية في 30 نوفمبر 1961م إعلاناً حدد فيه موقف تنجانيقا من المعاهدات التي أبرمتها المملكة المتحدة نيابةً عن تنجانيقا أو التي طبقتها عليها. وأصبح ذلك الإعلان يعرف فيما بعد بمبدأ نايريري. وأبلغ نايريري الأمين العام للأمم المتحدة بالإعلان بمذكرة بتاريخ 9 ديسمبر 1961م، وورد في المذكرة أن تنجانيقا ستستمر لمدة عامين، وعلى أساس المعاملة بالمثل، في تطبيق المعاهدات الثنائية التي أبرمتها المملكة المتحدة نيابة عن تنجانيقا أو التي طبقتها عليها. وورد في المذكرة أيضاً أن تنجانيقا تأمل أن تتمكن خلال فترة العامين وعبر المفاوضات من الوصول إلى اتفاق مرضٍ مع الدول المعنية بشأن احتمال استمرار أو تعديل مثل هذه المعاهدات. أما بعد انتهاء فترة العامين، فإن تنجانيقا ستقرر أن المعاهدات التي لا يمكن اعتبارها باقية بتطبيق قواعد القانون الدولي العرفي، قد انقضت.
وفي 4 يوليو 1962م أبلغت تنجانيقا السودان ومصر والسلطات الحاكمة في كينيا وأوغندا بمذكرات متماثلة، بأن أحكام اتفاقية عام 1929م التي تنص على أنها تنطبق على البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية، لا تلزم تنجانيقا بعد استقلالها.
ويبدو أنه كان من رأي تنجانيقا أن الاتفاقية التي ترمي إلى إلزام تنجانيقا دائماً بالحصول على موافقة الحكومة المصرية قبل القيام بأية أعمال ري أو توليد طاقة أو أية إجراءات أخرى مماثلة في بحيرة فكتوريا، أو في مستجمع مياهها، لا تنسجم مع مركز تنجانيقا باعتبارها دولة مستقلة ذات سيادة.
وبعد استقلالهما في عامي 1962م و 1963م على التوالي، اتبعت أوغندا وكينيا نهج تنجانيقا إزاء الاتفاقيات التي أبرمتها بريطانيا نيابةً عن كل منهما أو التي طبقتها عليهما. وقد تكرَّست مواقف هذه الدول الثلاث إزاء اتفاقية عام 1929م بعد التوقيع في مايو 2010م على اتفاقية بشأن الإطار التعاوني لحوض نهر النيل.
5 تقييم الموقفين السوداني والإفريقي:
سبق لنا القول إن الاتفاقيات التي ترتب حقوق مياه أو ملاحة في نهر ما تعتبر اتفاقيات إقليمية، لأنها ترتب حقوقاً على الإقليم نفسه فتدمغه بوضع دائم لا يتأثر بالتغيرات التي تطرأ على شخصية الدولة التي تمارس السيادة على الإقليم، وحلول دولة محل أخرى في السيادة على الإقليم. فهذا النوع من الحقوق لا يتأثر بحدوث حالة خلافة. وقد دونت لجنة القانون الدولي هذه القاعدة في المادة «12» من اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات لعام 1978م التي تنص على عدم تأثر النظم الإقليمية بخلافة الدول.
وقد طبقت محكمة العدل الدولية محتوى المادة «12» من اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات لعام 1978م في قضية مشروع غابتشيكوفو ناغيماروس بين هنغاريا وتشيكوسولوفاكيا. ونشأت وقائع هذه القضية من معاهدة أبرمت في عام 1977م بين هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا بغرض الدخول في استثمار مشترك لاستغلال قطاع معين من نهر الدانوب. ولكن في 31 ديسمبر 1992م انتهى وجود تشيكوسلوفاكيا بوصفها كيانا قانونيا، وظهرت جمهوريتا سلوفاكيا والتشيك. وعلى هذا الأساس دفعت هنغاريا بأن سريان معاهدة 1977م قد توقف بعد 31 ديسمبر 1992م، ولكن محكمة العدل الدولية استنتجت أن محتوى معاهدة 1977م يشير إلى وجوب اعتبارها بمثابة تأسيس لنظام إقليمي في إطار معنى المادة «12» من اتفاقية فيينا لسنة 1978م، فقد خلقت حقوقاً وواجبات مرتبطة بأجزاء نهر الدانوب المتعلقة بها، وبالتالي لا تتأثر المعاهدة نفسها بخلافة الدول. واعتبرت المحكمة المادة «12» من اتفاقية فيينا عاكسة لقاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي.
6- اتفاقية 8 نوفمبر عام 1959م:
«1» تراجعت حكومة ابراهيم عبود العسكرية عن الموقف الذي اتخذته الحكومة الديمقراطية التي سبقتها بشأن اتفاقية عام 1929م، إذ اعترف السودان في ديباجة الاتفاقية وفي الفقرتين «1 و2» من البند «أولاً» باستمرار سريان اتفاقية عام 1929م وبالحقوق المكتسبة للبلدين بموجبها. وكان مقدار تلك الحقوق 48 ملياراً من الأمتار المكعبة لمصر وبالنسبة للسودان 4 مليارات مقدرة عن أسوان سنوياً.
«2» بموجد البند «ثانياً» من الاتفاقية أصبح ضبط النهر يتم في السد العالي داخل الأراضي المصرية. وقُدر متوسط إيراد النهر في أسوان بنحو 84 مليار سنوياً، وقدر فاقد التخزين بالتبخر في السد العالي بحوالي 10 مليارات وهو من أعلى المعدلات عالمياً. وبعد خصم الحقوق المكتسبة للطرفين وفاقد التخزين في السد العالي «84 52 10» أصبح صافي فائدة السد العالي 22 ملياراً خصص منها للسودان 2/114 مليار وأصبح نصيبه بعد إضافة الحق المكتسب 2/118 مليار «2/114 + 4» وخصص لمصر 2/71 مليار وأصبح نصيبها بعد اضافة الحقوق المكتسبة 2/551 مليار «2/71 + 48».
«3» تناول البند «ثالثاً» من الاتفاقية مسألة استغلال المياه الضائعة في حوض النيل. إذ نصت الفقرة «1» من هذا البند على أن يتولى السودان بالاتفاق مع مصر إنشاء مشروعات زيادة إيراد النيل لمنع الضائع من مياهه في مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وفروعه ونهر السوباط وفروعه وحوض النيل الأبيض. ويكون صافي فائدة هذه المشروعات من نصيب الدولتين بحيث يوزع بينهما مناصفة، ويساهم كل منهما في جملة التكاليف بهذه النسبة أيضاً.
ومن المهم أن نذكر هنا أنه قد بدأ في منتصف عام 1978م العمل في تنفيذ واحد من مشروعات استرداد المياه الضائعة، وهو المرحلة الأولى من قناة جونقلي. وشملت هذه المرحلة حفر قناة من بور في بحر الجبل إلى نهر سوباط بطول يبلغ حوالي 360 كيلومتراً. وستتفادى القناة السدود وتحول جزءاً من تصريف بحر الجبل مباشرة إلى نهر سوباط. وقد تم تنفيذ اكثر من ثلتي المشروع وكان من المقرر أن ينتهي العمل فيه في عام 1985م، ولكن الحرب الأهلية حالت دون ذلك. وإذا قدر للمشروع أن يكتمل فإنه كان سيرفد إيراد النيل بحوالي 4.75 مليار متر مكعب عند ملكال وتقدر بنحو 3.85 مليار في أسوان.
ونعيد إلى الأذهان أن الحكومة الإقليمية لجنوب السودان التي كان يرأسها أبيل ألير قد وافقت على مشروع قناة جونقلي. ولكن دوائر جنوبية أخرى من بينها الحركة الشعبية رفضته لأسباب مختلفة سياسية واقتصادية وبيئية. وقد كان من أبرزها أن المشروع سيدمر بيئة المنطقة ويغير أنماط حياة السكان المحليين.
«4» أنشأ البند «رابعاً» من اتفاقية عام 1959م هيئة فنية مشتركة تتكون من عدد متساوٍ من كل طرف. وقد أُسندت إلى الهيئة عدة اختصاصات من بينها رسم الخطوط الرئيسة للمشروعات التي تهدف إلى زيادة إيراد النيل والإشراف على البحوث اللازمة وعلى تنفيذ المشروعات التي تقرها الحكومتان.
«5» اعترفت الفقرة «2» من البند «خامساً» بحق الدول الأخرى المشاطئة للنيل في حصص من مياهه. وتنص هذه الفقرة على أن يبحث السودان ومصر معاً مطالب الدول الواقعة على النيل بنصيب من مياهه، ويتفقان على رأي موحد بشأن هذه المطالب، وإذا أسفر البحث عن تخصيص أي قدر من إيراد النهر لأيٍ من هذه الدول، فإن هذا القدر يقتطع مناصفة من حصة الدولتين.
«6» إن اتفاقية مياه النيل لعام 1959م اتفاقية ثنائية ولا تلزم غير اطرافها أي مصر والسودان. ولكن في ما يتعلق بحقوق المياه التي نُص عليها، فإن اتفاقية عام 1959م وقبلها اتفاقية عام 1929م قد أنشأتا نظاماً اقليمياً وفقاً للقانون الدولي العرفي الذي دونته المادة «12» من اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات لعام 1978م، وستكون الدولة التي ربما تقام في الجنوب إذا رجح خيار الانفصال، ملزمة بهذا النظام. ويترتب على ذلك أن هذه الدولة تستحق حصة في مياه النيل خصماً على حصة السودان بموجب اتفاقية عام 1959م، ولكن هذه الدولة لن تكون ملزمة ببنود الاتفاقية المتعلقة بتنفيذ مشروعات استرداد الضائع من مياه النيل في اقليم جنوب السودان. ولا مجال لعضوية تلقائية لدولة الجنوب في الهيئة الفنية المشتركة لمياه النيل. ففي واقع الأمر إن الهيئة عبارة عن حلف مائي ثنائي مغلق. إذ لا يوجد في اتفاقية عام 1959م نص يسمح باستيعاب إقليم جنوب السودان وأية دولة أخرى من دول حوض النيل في الهيئة إلا إذا عُدلت الإتفاقية. فانفصال الجنوب وإنشاء مبادرة حوض النيل لم يكونا في الحسبان عندما أُبرمت اتفاقية عام 1959م.
في الختام نعيد القول بأن هناك التزاما على طرفي اتفاقية السلام بالتفاوض بحسن نية لتسوية كافة مسائل الخلافة. ولهما أن يسترشدا في ذلك بالاتفاقيات التي سقنا أطرافاً منها. غير أن الأساس يبقى دائماً اتفاق الطرفين. ومن الحكمة الاستعانة بالخبرة القانونية التي عملت في مجال خلافة الدول في العقدين الماضيين. وكذلك بالبنك الدولي وصندوق النقد في الشأن المتصل بالدين الخارجي. وإذا أخفق الطرفان في التوصل إلى تسوية عبر التفاوض، فلن يكون أمامها سوى استدعاء وسائل التسوية عن طريق طرف ثالث. وقد يكون ذلك بعرض الخلاف على التوفيق أو التحكيم أو التسوية القضائية.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.