عندما ابتعث الفريق محمد طلعت فريد عضو المجلس العسكرى آنذاك لتوقيع اتفاقية مياه النيل الثانية مع مصر فى عام 1959م، رفض التوقيع على مسودة الاتفاقية، حتى يعلم كم تساوى مليار متر مكعب من المياه، فيجيبه مهندس وزارة الرى المرافق للوفد بأنها تساوى الف مرة مثل دار الرياضة بام درمان، فابتسم وهو يوقع على المسودة مرددا.. انحنا فى السودان ما دايرين موية اكثر من دار الرياضة أم درمان، حيث تصادف أن سعادة الفريق كان وزيرا للشباب والرياضة آنذاك !!. لا اريد الدخول فى مناقشة حول صحة هذه النكتة التى يتداولها السودانيون، ولكن يبدو أن العقلية التى تدير شأن المياه بوزارة الرى السوداني- لم تزل تراوح مكانها منذ ايام الراحل طلعت فريد!!!!. بالطبع لم تزل اصداء الخلاف الذى نشب بين دول حوض نهر النيل حول توزيع حصص المياه وكيفية استخدام مياه أطول أنهار العالم «6695 كم»، اقول لم تزل اصداء هذا الخلاف تتردد منذ تفجره فى اجتماع وزراء دول حوض النيل في مايو الماضي في العاصمة الكونغولية كنشاسا، بعد رفض مصر والسودان التوقيع على «اتفاق إطاري للتعاون بين دول حوض النيل» لإعادة تقسيم المياه، وإنشاء مفوضية لدول حوض النيل، ما لم ينص الاتفاق صراحة على ثلاثة شروط، وبشكل واضح وليس في الملاحق الخاصة به. أول هذه الشروط، التأكيد على الحقوق التاريخية لكل من مصر والسودان في مياه النيل، التي ينظمها عدد من المعاهدات الدولية وقعتها دول بريطانيا وإيطاليا وبلجيكا خلال الفترة الاستعمارية. وثانيها ضرورة إخطار كل دولة مسبقاً عن كل المشروعات التي يتم تنفيذها على النهر وفروعه بما يضمن تدفق المياه بشكل طبيعي. وثالثها عدم جواز تغيير أي من بنود هذه الاتفاقية القانونية الأساسية إلا بإجماع الآراء. أما البنود الأخرى الأقل أهمية، فيمكن التصويت عليها وفق قاعدة الأغلبية المطلقة، وفي جميع الأحوال ينبغي أن تكون دولتا المصب، مصر والسودان، ضمن هذه الأغلبية المطلقة. إن الأمر الذى يدعم هذا الخلاف ويشعله هو ثبات كميات المياه وتزايد سكان دول حوض النيل وزيادة المشروعات الزراعية، حيث تتوقع إحصاءات غير رسمية صادرة عن منظمة ال «نيباد»، أن يصل تعداد سكان مصر إلى 121 مليون نسمة بحلول عام 2050م، فيما سيصل عدد سكان السودان في العام نفسه إلى 73 مليون نسمة، وإثيوبيا إلى 183 مليون نسمة. وتعتبر دول المصب ممثلة فى مصر والسودان أن مياه النيل مصدرها الأساسي للحياة، وترفض تغيير الاتفاقيات التاريخية القديمة التي منحتها حقوقا مكتسبة، بل وتطالب بزيادة حصتها الحالية من المياه. لكن في المقابل، تعتبر دول المنبع «إثيوبيا وكينيا وتنزانيا ويوغندا وبورندى ورواندا واريتريا والكنغو» أن هذه المياه تنبع من أراضيها، وبالتالي فهي ملك لها، ويجب أن تستفيد منها بشكل أكبر. وهذا الأمر جعل دول المنبع تعلن أخيراً عن نيتها توقيع الاتفاق الإطاري، وإنشاء مفوضية دول حوض النيل من دون مصر والسودان، مع فتح الباب لانضمامهما مستقبلا، بحيث تستطيع الذهاب إلى الدول المانحة لتمويل مشروعاتها النيلية والزراعية. والجهات المانحة تشمل: البنك الدولي، والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وأميركا، والوكالة الكندية للتنمية الدولية، ووكالة التنمية الألمانية، ووزارة الخارجية الدانمركية، ووزارة الخارجية الهولندية، وهيئة التنمية الدولية السويدية، والوكالة الفرنسية للتنمية، ووزارة الخارجية الفنلندية، ووزارة الخارجية النرويجية، والمؤسسة الإنجليزية للتنمية الدولية. وترجع جذور هذا الصراع إلى ثمانين عاما مضت، وتحديدا إلى عام 1929م، حين وقعت بريطانيا «الدولة الاستعمارية السابقة»، نيابة عن أوغندا وتنزانيا وكينيا، اتفاقا مع الحكومة المصرية يتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل، وحق مصر في الاعتراض على إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر وروافده. كما لحقت بهذه الاتفاقية اتفاقية أخرى بين مصر والسودان عام 1959م منحت مصر بموجبها حق استغلال 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل، ومنحت السودان 18.5 مليار متر مكعب من مياه النيل يحق له استخدامها، على أن تتعاون الدولتان في دراسة وتنفيذ مشروعات أعالي النيل لتقليل فاقد المياه في هذه المنطقة وتعظيم إيراد النهر. لكن ومنذ استقلال دول حوض النيل في منتصف الستينيات، هناك مطالبات متزايدة من جانب حكوماتها بإعادة النظر في هذه الاتفاقيات القديمة، بحجة أن الحكومات القومية لم تبرمها ولكن أبرمها الاحتلال نيابة عنها، وأنها جزء من ميراث الفترة الاستعمارية، كما أن هناك حاجة لدى بعض هذه الدول لموارد مائية متزايدة. ولذلك أعلنت دول مثل تنزانيا وإثيوبيا وكينيا منذ استقلالها، رفضها لهذه الاتفاقية وعدم الاعتراف بها. وظلت هذه الدول تهدد بتنفيذ مشروعات سدود وقناطر على نهر النيل لحجز المياه داخل حدودها والتقليل من كميات المياه التي ترد إلى السودان وبالتالي مصر. وعلى الرغم من أن هذه التهديدات لم ينفذ أغلبها، فإنها تبقى جاهزة في كل وقت لتصب مزيدا من الزيت فوق النار. ويشار إلى أن محاولات الوصول إلى صيغة مشتركة للتعاون بين دول حوض النيل، بدأت عام 1993م من خلال إنشاء أجندة عمل مشتركة لهذه الدول. ثم في عام 1995م، طلب مجلس وزراء مياه دول حوض النيل من البنك الدولي الإسهام في الأنشطة المقترحة. وعام 1997م، قامت دول حوض النيل بإنشاء منتدى للحوار من أجل الوصول لأفضل آلية مشتركة للتعاون فيما بينهم. ثم اجتمعت لاحقاً عام 1998م من أجل إنشاء الآلية المشتركة التي تم التوقيع عليها في فبراير 1999 في تنزانيا، وتم تفعيلها لاحقا في مايو من العام نفسه، وسميت رسميا باسم «مبادرة حوض النيل». وتهدف إلى الوصول لتنمية مستدامة من خلال الاستغلال المتساوي للإمكانيات المشتركة التي يوفرها حوض نهر النيل، وتنمية المصادر المائية لنهر النيل لضمان الأمن والسلام لجميع شعوب دول حوض النيل. الموقف السودانى من النزاع: لقد وقع السودان اتفاقيتين بخصوص مياه النيل مع مصر، الاولى فى عام 1929م، حيث وقعت بريطانيا انابة عن السودان باعتبار وضعها بصفتها دولة مستعمرة، حيث منح السودان فى هذه الاتفاقية فقط اربعة مليارات متر مكعب مقابل ثمانية واربعين مليار متر مكعب لمصر، ولقد نشأ هذا الاتفاق بعد احتجاجات مستديمة من مصر تجاه بريطانيا بخصوص إنشاء مشروع الجزيرة، حيث تعتقد مصر ان رى ثلاثمائة الف فدان بالجزيرة سوف يؤثر على حقوقها التاريخية المكتسبة من مياه النيل، واخيرا ارتضت مصر منح السودان هذه الاربعة مليارات متر لرى كافة مشروعات السودان الحالية والمستقبلية..!! وبرز الخلاف مجدداً بين السودان ومصر حين فكر السودان فى إنشاء امتداد لمشروع الجزيرة «امتداد المناقل» وذلك فى عام 1955م حين كان الاتحادي ميرغني حمزة وزيرا للري، فلقد رفض المصريون ايضا هذه الزيادة في المشروع تحت ادعاء تأثير هذا الامر على الحقوق الراسخة والتاريخية لمصر فى مياه النيل..!! وأنه من المصادفة فقد بدأت مصر فيما بعد بالتفكير فى تعديل اتفاقية مياه النيل لاسباب انشاء السد العالى، ولكن الحكومات الوطنية المتعاقبة كانت تماطل فى ذلك انتظاراً للحظة الذهبية لاستعدال الصورة المقلوبة التى أحدثتها اتفاقية 1929م التى رفضت الحكومة الوطنية الاولى الاعتراف بها، لأنها وقعت بواسطة المستعمر الانجليزى مع مصر فى اطار محاصصات سياسية بين مصر وانجلترا!!. إن المصريين كانوا يعون أن السد العالى سوف يتغول على الاراضى السودانية، وهو الامر الذى ما كان له ان يحدث دون موافقة الحكومة السودانية، لذا فهم كانوا فى اضطرار لفتح الاتفاقية. لقد أراد السودان أن يحدث تعديلاً جذرياً فى محاصصة المياه البالغة أربعة وثمانين مليار متر مكعب فى الاتفاقية الجديدة، بينما كان المصريون يريدون الحديث فقط عن الفائض الناتج عن قيام السد والبالغ فقط اثنين وعشرين مليار متر مكعب، وهو القدر الذى كان يذهب الى البحر، وهكذا سار الامر الى ان اتى انقلاب عبود فى 1958م كى تقنع الحكومة المصرية العسكر بالتوقيع على اتفاقية الاستغلال الكامل لمياه النيل التى تأسست على موقف المصريين القاضى باقتسام الفائض، فتبلغ حصة السودان ثمانية عشر ملياراً ونصف المليار متر مكعب، مقابل خمسة وخمسين ملياراً ونصف المليار لمصر، مع النص فى صلب الاتفاقية فى المادة «5.2» على أنه اذا طالبت دول حوض النيل الأخرى بحصة في مياه النيل، واذا ما أدت المفاوضات معها الى قبول هذه المطالبة، فسوف تخصم الكمية المطلوبة من حصة البلدين بالتساوي الى جانب الزام السودان باى موقف مصرى فى اى نزاع مستقبلى، حيث ألزمت الاتفاقية السودان بموقف مشترك مع مصر في أى نزاع مع دول الحوض، لذلك سوف تعامل هذه الدول السودان باعتباره تابعاً لمصر، وبالتالي لن يكون طرفاً أصيلا في أية مفاوضات، وسيكون السودان، بصفته تابعاً، القربان الذي ستذبحه مصر للوصول لاتفاق مع باقى دول الحوض، كما أعطت الاتفاقية مصر حق استخدام ما يفيض من حاجة السودان، واعتبار ذلك ديناً على مصر، لكن الاتفاقية لم تضع آلية لاسترداد هذا الدين الذي بلغ في فترة «50» سنة قرابة ال «500» مليار متر مكعب، ولا أدري كيف سيستطيع السودان استرداد هذه الكميات المهولة من المياه، وهي حق مثبت بالاتفاقية.