ماذا قالت قيادة "الفرقة ال3 مشاة" – شندي بعد حادثة المسيرات؟    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض الجوانب القانونية لانفصال جنوب السودان ... بقلم: دكتور فيصل عبدالرحمن علي طه
نشر في سودانيل يوم 01 - 11 - 2010


الجزء الثالث
الخلافة في اتفاقيتي مياه النيل
لعامي 1929 و 1959
1- مدخل
نود في مستهل هذا المقال أن نؤكد على حقيقتين أولهما: أن قسماً كبيراً من حوض النيل يجري في إقليم جنوب السودان. فبعد نيل فكتوريا ونيل ألبرت وابتداء من نيمولي يطلق على النهر اسم بحر الجبل. شمالي منقلا يدخل بحر الجبل مستنقعات تعرف بمنطقة السدود. وفي حوالي منتصف هذه المنطقة يتفرع بحر الزراف عن بحر الجبل ويتخذ مساراً مستقلاً إلى أن يلتقي بالنيل الأبيض. حري بالذكر أن بحر الجبل يفقد نصف إيراده السنوي في منطقة السدود. ويجري كذلك في إقليم الجنوب حوض بحر الغزال الذي يتغذى من الأنهار الصغيرة التي تنبع في مرتفعات الكونغو وافريقيا الوسطى ومن الروافد الجنوبية لبحر العرب. يلتقي بحر الغزال مع بحر الجبل عند بحيرة نو ويتكون منهما النيل الأبيض. وجنوبي ملكال يلتقي النيل الأبيض بنهر سوباط القادم من الهضبة الإستوائية.
أما الحقيقة الثانية التي ينبغي أن نفهمها جيداً فهي أن كل مشاريع استرداد المياه الضائعة ذات الجدوى التي يمكن القيام بها مستقبلاً موجودة في إقليم جنوب السودان. فكميات كبيره من المياه تضيع في مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وبحر الغزال ونهر سوباط عن طريق التبخر والنتح والتسرب والانتشار. وقد ورد في خطة وزارة الري الرئيسة للعام 1979م أن حوالي 42 مليار متر مكعب من المياه تفقد سنوياً في إقليم جنوب السودان. فحوالي 14 مليار تضيع في مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف. وتضيع في حوض بحر الغزال حوالي 12 مليار متر مكعب. وتقدر كمية الفاقد في حوض السوباط ومستنقعات مشار بحوالي 19 مليار متر مكعب.
2- إتفاقية عام 1929
إن لاتفاقية عام 1929 تاريخ طويل. يكفي أن نذكر هنا أنها قد أبرمت في إطار مصالحة سياسية بين مصر وبريطانيا بعد أحداث ثورة 1924 في السودان ومقتل سيرلي استاك حاكم السودان العام وسردار الجيش المصري في القاهرة في 19 نوفمبر 1924. بسبب هذه الأحداث وجه المندوب السامي البريطاني في مصر اللنبي في 22 و23 نوفمبر 1924 إنذاراً إلى رئيس وزراء مصر سعد زغلول تضمن بنداً بأن الحكومة البريطانية قد أصدرت تعليمات إلى حكومة السودان بأن لها مطلق الحرية في زيادة مساحات الأراضي المروية في الجزيرة من 000.300 فدان إلى مقدار غير محدد وفقاً للحاجة. وكان اللنبي قد تعهد في سنة 1920 للحكومة المصرية بأن مساحة الأراضي المروية في الجزيرة لن تزيد عن 000.300 فدان.
على كل حال، بعد عودة العلاقات الودية بين مصر وبريطانيا، طلب رئيس وزراء مصر في 25 يناير 1925 من الحكومة البريطانية إعادة النظر في تعليماتها إلى حكومة السودان بشأن توسيع نطاق الري في الجزيرة حتى لا يلحق أضراراً بالري في مصر. وإثباتاً لحسن نواياها ومراعاة منها لحقوق مصر التاريخية والطبيعية في مياه النيل، أبدت الحكومة البريطانية في 26 يناير 1925 استعدادها لإصدار تعليمات جديدة إلى حكومة السودان بألا تنفذ ما سبق إرساله إليها من تعليمات بشأن توسيع نطاق الري في الجزيرة توسيعاً لا حد له، على أن تشكل لجنة من ثلاثة خبراء لتدرس وتقترح القواعد التي يمكن إجراء الري بموجبها مع مراعاة مصالح مصر ومن غير الإضرار بمالها من الحقوق الطبيعية والتاريخية. أصبحت تلك اللجنة تعرف بلجنة مياه النيل لعام 1925. قدمت اللجنة تقريرها في 21 مارس 1926، ويعتبر هذا التقرير جزءاً لا ينفصل عن الاتفاق بين مصر وبريطانيا بشأن استخدام مياه النيل لأغراض الري. وقد ضُمن هذا الإتفاق في المذكرات التي تبودلت في 7 مايو 1929 بين محمد محمود رئيس وزراء مصر والمندوب السامي البريطاني لويد.
اعترف محمد محمود في مذكرته بأن تعمير السودان يحتاج إلى مقدار من المياه أعظم من المقدار الذي كان يستخدمه آنذاك وأبدى استعداده لزيادة ذلك المقدار «بحيث لا تضر تلك الزيادة بحقوق مصر الطبيعية والتاريخية في مياه النيل، ولا بما تحتاج إليه مصر في توسعها الزراعي». وفي مذكرة الرد أكد لويد لمحمد محمود بأن الحكومة البريطانية تعتبر المحافظة على حقوق مصر الطبيعية والتاريخية في مياه النيل مبدأ أساسياً من مبادئ السياسة البريطانية.
واتفق الطرفان على «ألا تقام بغير اتفاق مع الحكومة المصرية أعمال ري أو توليد قوى، ولا تتخذ إجراءات على النيل وفروعه أو على البحيرات التي ينبع منها سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية يكون من شأنها إنقاص مقدار الماء الذي يصل إلى مصر أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على أي وجه يلحق ضرراً بمصالح مصر».
كفل إتفاق سنة 1929 لمصر حق الرقابة على النيل في السودان وفي البلدان الواقعة تحت النفوذ البريطاني. فقد نص بين أمور أخرى على الآتي:
(أ) إن المفتش العام لمصلحة الري المصرية في السودان أو معاونيه أو أي موظف آخر يعينه وزير الأشغال تكون لهم الحرية الكاملة في التعاون مع المهندس المقيم لخزان سنار لقياس التصرفات والأرصاد كي تتحقق الحكومة المصرية من أن توزيع المياه وموازنات الخزان جارية طبقاً لما تم الاتفاق عليه.
(ب) تلقى الحكومة المصرية كل التسهيلات اللازمة للقيام بدراسة ورصد الأبحاث المائية (هيدرلوجيا) لنهر النيل في السودان دراسة ورصداً وافيين.
(ج) إذا قررت الحكومة المصرية إقامة أعمال في السودان على النيل أو فروعه أو إتخاذ أي إجراء لزيادة مياه النيل لمصلحة مصر تتفق مقدماً مع السلطات المحلية على ما يجب إتخاذه من الإجراءات للمحافظة على المصالح المحلية. ويكون إنشاء هذه الأعمال وصيانتها وإدارتها من شأن الحكومة المصرية وتحت رقابتها رأساً.
(د) تستعمل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى وشمال ايرلندا وساطتها لدى حكومات المناطق التي تحت نفوذها لكل تسهل للحكومة المصرية عمل المساحات والمقاييس والدراسات والأعمال من قبيل ما هو مبين في الفقرتين السابقتين.
وتشتمل ترتيبات اتفاق سنة 1929 على قواعد تفصيلية بشأن التخزين والسحب من مياه النيل. ويمكن إجمال بعض ما ترتب على هذه القواعد فيما يلي:
(أ) يحفظ لمصر حق الانتفاع بجميع مياه النيل وفروعه في الفترة من 19 يناير إلى 15 يوليو (بتاريخ سنار) باستثناء ما تستهلكه طلمبات الري في السودان.
(ب) يحق للسودان رفع منسوب التخزين بخزان سنار بحيث يسمح بري ترعة الجزيرة في ظرف 10 أيام إبتداء من 16 يوليو بشرط أن يكون متوسط مجموع تصرف المياه في ملكال والروصيرص قد بلغ 160 مليون متر مكعب يومياً وذلك خلال الأيام الخمسة السابقة لهذا التاريخ مع مراعاة فترة انتقال من ملكال قدرها 10 أيام. ويعرف هذا بالملء الأول.
(ج) يحق للسودان ملء خزان سنار في المدة من 27 أكتوبر إلى 30 نوفمبر. ويعرف هذا بالملء الثاني.
3- السودان يرفض في عام 1958 اتفاقية عام 1929
ابان الفترة الإنتقالية التي سبقت الاستقلال أجريت مفاوضات مصرية - سودانية بشأن مياه النيل لا مجال هنا لتفصيلها. يكفي أن نذكر أنها انتهت إلى فشل تام وأزمة سياسية بين مصر وحكومة الحزب الوطني الاتحادي التي كانت على سدة الحكم آنذاك.
وتسببت مياه النيل في أزمة سودانية - مصرية في عهد آخر حكومة ديمقراطية قبيل انقلاب 17 نوفمبر 1958. كان يرأس تلك الحكومة التي كانت ائتلافية بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي، عبدالله خليل. وكان وزير الري فيها ميرغني حمزة.
ففي 2 يوليو 1958 بدأت سلطات الري في السودان في حجز المياه عند خزان سنار لملء القناة الرئيسية للامتداد الجديد لمشروع الجزيرة - أي امتداد المناقل. وكان ذلك قبل التاريخ المحدد في اتفاقية سنة 1929 وهو 16 يوليو من كل عام. وفي 9 يوليو بعثت الحكومة المصرية بمذكرة احتجاج لحكومة السودان على الاجراء الذي قامت به سلطات الري السودانية. جاء في المذكرة المصرية أن تغيير مواعيد الحجز عند خزان سنار يعد خرقاً لاتفاقية عام 1929 وطالبت بالايقاف الفوري له. وجاء فيها أيضاً أن التوسع في امتداد المناقل سيؤدي إلى سحب كميات من النهر تؤثر في ملء خزان اسوان وحرمان ربع مليون فدان من الزراعة الصيفية وتشريد مليون وربع من الأنفس. وذلك فضلاً عن تعذر ملء سبعمائة ألف فدان من أراضي الحياض وما سيترتب على ذلك من نتائج اجتماعية واقتصادية.
ردت حكومة السودان على الحكومة المصرية بمذكرة بتاريخ 15 يوليو 1958. جاء في المذكرة السودانية أن رفع مستوى الماء في خزان سنار مسألة فنية كان ينبغي أن تترك لتعالج بين الدوائر الفنية في البلدين بنفس روح التعاون والثقة المتبادلة التي استقرت منذ استقلال السودان. وأبدت حكومة السودان أسفها لأن حكومة الجمهورية العربية المتحدة لم تترك هذه المسألة الفنية لتعالج في الإطار الفني، بل آثرت تحويلها إلى نقاش حول ما يسمى باتفاق 1929 الذي لم يكن السودان طرفاً فيه.
وإزاء اتفاق 1929 ذكرت حكومة السودان أنها لم تعترف في أي وقت بأنها ملزمة بهذا الإتفاق، وأن الاتفاق قد أبرم بين الحكومتين المصرية والبريطانية كجزء من تسوية سياسة عامة بدون اعتبار لمصالح السودان. ثم أشارت المذكرة إلى أنه عند إعلان استقلال السودان طلبت دولتا الحكم الثنائي من حكومة السودان أن تبدي ما إذا كانت راغبة في إعطاء الأثر الكامل للاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمتها دولتا الحكم الثنائي نيابة عن السودان أو طبقتها عليه. عندئذ طلبت حكومة السودان من دولتي الحكم الثنائي أن تحددا تلك الاتفاقيات والمعاهدات لتنظر فيها. وبما أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة لم تقدم اتفاق 1929 كواحد من تلك الاتفاقيات فينبغي ألا تتوقع أن تعطي حكومة السودان أي اعتبار لذلك الاتفاق.
وفي فقرة تالية من المذكرة، أكدت حكومة السودان أنها لن تقبل أحكام إتفاق 1929 كأساس لما ينبغي أن تقوم به أو تمتنع عن القيام به. وبالمثل فإن أي اتهام بخرق اتفاق دولي لن يكون مقبولاً. وقد ظلت حكومة السودان على موقفها هذا إزاء اتفاق 1929 حتى وقوع الإنقلاب العسكري في 17 نوفمبر 1958.
4- موقف دول شرق أفريقيا الثلاث من اتفاقية عام 1929
رفضت تنجانيقا عند استقلاها أن توقع مع المملكة المتحدة على اتفاقية أيلوله. وأصدر الرئيس نايريري في الجمعية الوطنية في 30 نوفمبر 1961 إعلاناً حدد فيه موقف تنجانيقا من المعاهدات التي أبرمتها المملكة المتحدة نيابة عن تنجانيقا أو التي طبقتها عليها. وأصبح ذلك الإعلان يعرف فيما بعد بمبدأ نايريري. أبلغ نايريري الأمين العام للأمم المتحدة بالإعلان بمذكرة بتاريخ 9 ديسمبر 1961. ورد في المذكرة أن تنجانيقا ستستمر لمدة عامين، وعلى أساس المعاملة بالمثل، في تطبيق المعاهدات الثنائية التي أبرمتها المملكة المتحدة نيابة عن تنجانيقا أو التي طبقتها عليها. وورد في المذكرة أيضاً أن تنجانيقا تأمل أن تتمكن خلال فترة العامين وعبر المفاوضات من الوصول إلى اتفاق مرضٍ مع الدول المعنية بشأن احتمال استمرار أو تعديل مثل هذه المعاهدات. أما بعد انتهاء فترة العامين، فإن تنجانيقا ستقرر أن المعاهدات التي لا يمكن اعتبارها باقية بتطبيق قواعد القانون الدولي العرفي، قد انقضت.
وفي 4 يوليو 1962 أبلغت تنجانيقا السودان ومصر والسلطات الحاكمة في كينيا وأوغندا بمذكرات متماثلة بأن أحكام اتفاقية عام 1929 والتي تنص على أنها تنطبق على البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية لا تلزم تنجانيقا بعد استقلالها.
ويبدو أنه كان من رأي تنجانيقا أن الاتفاقية التي ترمي إلى إلزام تنجانيقا دائماً بالحصول على موافقة الحكومة المصرية قبل القيام بأي أعمال ري أو توليد طاقة أو أي إجراءات أخرى مماثلة في بحيرة فكتوريا، أو في مستجمع مياهها، لا تنسجم مع مركز تنجانيقا كدولة مستقلة ذات سيادة.
وبعد استقلالهما في عامي 1962 و 1963 على التوالي، إتبعت أوغندا وكينيا نهج تنجانيفا إزاء الاتفاقيات التي أبرمتها بريطانيا نيابة عن كل منهما أو التي طبقتهما عليهما. وقد تكرست مواقف هذه الدول الثلاث إزاء اتفاقية عام 1929 بعد التوقيع في مايو 2010 على اتفاقية بشأن الإطار التعاوني لحوض نهر النيل.
5- تقييم الموقفين السوداني والافريقي
سبق لنا القول إن الاتفاقيات التي ترتب حقوق مياه أو ملاحة في نهر ما تعتبر اتفاقيات إقليمية لأنها ترتب حقوقاً على الإقليم نفسه فتدمغه بوضع دائم لا يتأثر بالتغيرات التي تطرأ على شخصية الدولة التي تمارس السيادة على الإقليم، وحلول دولة محل أخرى في السيادة على الإقليم. فهذا النوع من الحقوق لا يتأثر بحدوث حالة خلافة. وقد دونت لجنة القانون الدولي هذه القاعدة في المادة 12 من اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات لعام 1978 التي تنص على عدم تأثر النظم الإقليمية بخلافة الدول.
وقد طبقت محكمة العدل الدولية محتوى المادة 12 من اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات لعام 1978 في قضية مشروع غابتشيكوفو - ناغيماروس بين هنغاريا وتشيكوسولوفاكيا. نشأت وقائع هذه القضية من معاهدة أبرمت في عام 1977 بين هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا بغرض الدخول في استثمار مشترك لاستغلال قطاع معين من نهر الدانوب. ولكن في 31 ديسمبر 1992 انتهى وجود تشيكوسلوفاكيا ككيان قانوني وظهرت جمهوريتا سلوفاكيا والتشيك. على هذا الأساس دفعت هنغاريا بأن سريان معاهدة 1977 قد توقف بعد 31 ديسمبر 1992. ولكن محكمة العدل الدولية إستنتجت أن محتوى معاهدة 1977 يشير إلى وجوب اعتبارها بمثابة تأسيس لنظام إقليمي في إطار معنى المادة 12 من اتفاقية فيينا لسنة 1978. فقد خلقت حقوقاً وواجبات مرتبطة بأجزاء نهر الدانوب المتعلقة بها، وبالتالي لا تتأثر المعاهدة نفسها بخلافة الدول. واعتبر المحكمة المادة 12 من اتفاقية فيينا عاكسة لقاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي.
6- اتفاقية 8 نوفمبر عام 1959
(1) تراجعت حكومة ابراهيم عبود العسكرية عن الموقف الذي اتخذته الحكومة الديمقراطية التي سبقتها بشأن اتفاقية عام 1929. إذ اعترف السودان في ديباجة الاتفاقية وفي الفقرتين 1 و2 من البند (أولاً) باستمرار سريان اتفاقية عام 1929 وبالحقوق المكتسبة للبلدين بموجبها. وكان مقدار تلك الحقوق 48 ملياراً من الأمتار المكعبة لمصر وبالنسبة للسودان 4 مليارات مقدرة عن أسوان سنوياً.
(2) بموجد البند (ثانياً) من الاتفاقية أصبح ضبط النهر يتم في السد العالي داخل الأراضي المصرية. قُدر متوسط إيراد النهر في أسوان بنحو 84 مليار سنوياً، وقدر فاقد التخزين بالتبخر في السد العالي بحوالي 10 مليارات وهو من أعلى المعدلات عالمياً. بعد خصم الحقوق المكتسبة للطرفين وفاقد التخزين في السد العالي (84 52 10) أصبح صافي فائدة السد العالي 22 ملياراً خصص منها للسودان 2/114 مليار وأصبح نصيبه بعد إضافة الحق المكتسب 2/118 مليار (2/114 + 4) وخصص لمصر 2/71 مليار وأصبح نصيبها بعد اضافة الحقوق المكتسبة 2/551 مليار (2/71 + 48).
(3) تناول البند (ثالثاً) من الاتفاقية مسألة استغلال المياه الضائعة في حوض النيل. إذ نصت الفقرة (1) من هذا البند على أن يتولى السودان بالاتفاق مع مصر إنشاء مشروعات زيادة إيراد النيل لمنع الضائع من مياهه في مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وفروعه ونهر السوباط وفروعه وحوض النيل الأبيض. ويكون صافي فائدة هذه المشروعات من نصيب الدولتين بحث يوزع بينهما مناصفة ويساهم كل منهما في جملة التكاليف بهذه النسبة أيضاً.
من المهم نذكر هنا أنه قد بدأ في منتصف عام 1978 العمل في تنفيذ واحد من مشروعات استرداد المياه الضائعة وهو المرحلة الأولى من قناة جونقلي. شملت هذه المرحلة حفر قناة من بور في بحر الجبل إلى نهر سوباط بطول يبلغ حوالي 360 كيلومتراً. ستتفادى القناة السدود وتحول جزءً من تصريف بحر الجبل مباشرة إلى نهر سوباط. وقد ثم تنفيذ اكثر من ثلتي المشروع وكان من المقرر أن ينتهي العمل فيه في عام 1985 ولكن الحرب الأهلية حالت دون ذلك. وإذا قدر للمشروع أن يكتمل فإنه كان سيرفد إيراد النيل بحوالي 4.75 مليار متر مكعب عند ملكال وتقدر بنحو 3.85 مليار في أسوان.
نعيد إلى الأذهان أن الحكومة الإقليمية لجنوب السودان التي كان يرأسها ابيل الير قد وافقت على مشروع قناة جونقلي. ولكن دوائر جنوبية أخرى من بينها الحركة الشعبية رفضته لاسباب مختلفة سياسية واقتصادية وبيئية. وقد كان من أبرزها أن المشروع سيدمر بيئة المنطقة ويغير أنماط حياة السكان المحليين.
(4) أنشأ البند (رابعاً) من اتفاقية عام 1959 هيئة فنية مشتركة تتكون من عدد متساوٍ من كل طرف. وقد أُسندت إلى الهيئة عدة اختصاصات من بينها رسم الخطوط الرئيسة للمشروعات التي تهدف إلى زيادة إيراد النيل والإشراف على البحوث اللازمة وعلى تنفيذ المشروعات التي تقرها الحكومتان.
(5) إعترفت الفقرة 2 من البند (خامساً) بحق الدول الأخرى المشاطئة للنيل في حصص من مياهه. تنص هذه الفقرة علي أن يبحث السودان ومصر معاً مطالب الدول الواقعة على النيل بنصيب من مياهه، ويتفقان على رأي موحد بشأن هذه المطالب، وإذا أسفر البحث عن تخصيص أي قدر من إيراد النهر لأي من هذه الدول، فإن هذا القدر يقتطع مناصفة من حصة الدولتين.
(6) إن اتفاقية مياه النيل لعام 1959 اتفاقية ثنائية ولا تلزم غير اطرافها أي مصر والسودان. ولكن فيما يتعلق بحقوق المياه التي نُص عليها، فإن اتفاقية عام 1959 وقبلها اتفاقية عام 1929 قد أنشأتا نظاماً اقليمياً وفقاً للقانون الدولي العرفي الذي دونته المادة 12 من اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات لعام 1978. وستكون الدولة التي ربما تقام في الجنوب إذا رجح خيار الانفصال، ملزمة بهذا النظام. يترتب على ذلك أن هذه الدولة تستحق حصة في مياه النيل خصماً على حصة السودان بموجب اتفاقية عام 1959. ولكن هذه الدولة لن تكون ملزمة ببنود الاتفاقية المتعلقة بتنفيذ مشروعات استرداد الضائع من مياه النيل في اقليم جنوب السودان. ولا مجال لعضوية تلقائية لدولة الجنوب في الهيئة الفنية المشتركة لمياه النيل. ففي واقع الأمر إن الهيئة عبارة عن حلف مائي ثنائي مغلق. إذ لا يوجد في اتفاقية عام 1959 نص يسمح باستيعاب إقليم جنوب السودان وأي دولة أخرى من دول حوض النيل في الهيئة إلا إذا عُدلت الإتفاقية. فانفصال الجنوب وإنشاء مبادرة حوض النيل لم يكنا في الحسبان عندما أُبرمت اتفاقية عام 1959.
في الختام نعيد القول بأن هناك التزام على طرفي اتفاقية السلام بالتفاوض بحسن نية لتسوية كافة مسائل الخلافة. ولهما أن يسترشدا في ذلك بالاتفاقيات التي سقنا أطرافاً منها. غير أن الأساس يبقى دائماً اتفاق الطرفين. ومن الحكمة الاستعانة بالخبرة القانونية التي عملت في مجال خلافة الدول في العقدين الماضيين. وكذلك بالبنك الدولي وصندوق النقد في الشأن المتصل بالدين الخارجي. وإذا أخفق الطرفان في التوصل إلى تسوية عبر التفاوض، فلن يكون أمامها سوى استدعاء وسائل التسوية عن طريق طرف ثالث. وقد يكون ذلك بعرض الخلاف على التوفيق أو التحكيم أو التسوية القضائية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.