وسط ارهاصات باكتمال منظومة مفاوضات الدوحة بمشاركة اوسع من الحركات المسلحة، واجواء تَعجّل الطرف الحكومي لاستيعاب بعض قيادات الاطراف الاخرى بتسويات جانبية، وتعهدات الوساطة الدولية بتوسيع قاعدة الشراكة في العملية السلمية بتقديم وثيقة السلام المحتمل الى كل الشركاء الدارفوريين بمن في ذلك المؤسسات التشريعية التي افرزتها انتخابات ابريل الماضي «غير المتراضى على اسس النجاح فيها»، والمجتمع الدارفوري العريض بمنظماته المدنية ومؤسساته الاهلية، وسط تلك الارهاصات والتوقعات عاد النزاع المسلح ناشطا بين الاطراف في دارفور على نحو جعل الطرف الحكومي وفي سياق ما يعرف اعلاميا بالاستراتيجية الجديدة لدارفور ان تبحث عن خصوم مدنيين وسط الناشطين والصحفيين بمسارات قانونية. اعتقلت سلطات امنية نحوا من خمسة عشر من النساء والرجال من المتهمين لديها بالتعاون مع راديو دبنقا بتعهد صريح لتقديمهم الى المحاكمة كما اكد وزير الدولة برئاسة الجمهورية امين حسن، باعتبار ان الاذاعة «تهدد الامن الداخلي للبلاد والاستقرار الاجتماعي». على غير توقع الاطراف السياسية المكونة للحكومة الجهة الآمرة بالاجراء، فان الاعتقال اثار اسئلة وجدلا عريضا وسط الرأي العام السوداني، حول مصداقية الاعتقالات وقانونيتها؟ توقيتها؟ جداوها في هذه المرحلة الدقيقة التي يتطلع فيها السودانيون الى لم الشمل؟ ايضا يتطلعون الى سلام متراضى عليه بالحوار والتفاهمات حول بقاء الوطن بامكانيات الوحدة ولو بعد حين. بتلك الخلفية تعاطفت القوى المهنية الصحفية مع جعفر السبكي ومن معه من المعتقلين من خلال بيانات واعتصامات مطالبة باطلاق سراحهم او تقديمهم الى محاكمة عادلة ومشهودة بالدفاع، كما اقدمت القوى السياسية المدنية وفي مقدمتها الحزب الاتحادي الديمقراطي الاصل وهيئة محاميي دارفور على تنظيم ملتقى للتعضيد من موقف المعتقلين والتعجيل بتقديمهم لمحاكمات عادلة حتى يتضح الموقف القانوني السليم هذا فضلا عن المناداة مجددا بتعديل القوانين المجحفة بحق حرية التعبير، اضافة الى مراعاة الاوضاع النفسية والمعيشية لاسرهم مع مقدم عيد الفداء. على الصعيد الخارجي فقد وُصفت الاعتقالات بأنها موجة اجتاحت الناشطين في حقوق الانسان والصحفيين، صاحبتها اعتداءات على مقر «مجموعة حقوق الانسان المناصرة من اجل الديمقراطية» وقد تم اغلاقها تماما. من الجهات التي ادانت الاعتقال وزارة الخارجية الامريكية، وبعثة يوناميد ومنظمة امنستي العالمية فيما دعت الاخيرة الى حملة عالمية للضغط على السلطات السودانية لاطلاق سراح المعتقلين، اما هيومان رايتس ووتش فقد قالت نيابة عنها رونا بيليغال مدير قسم افريقيا «ان الحكومة تستهدف فيما يبدو اعضاء هذه المجموعة بسبب نشاطهم المهم الخاص بدارفور، وليس بارتكاب اعضاء المجموعة لأية جريمة. على الحكومة ان تحاكم هؤلاء الافراد وإلا تطلق سراحهم...» ايضا زادت تلك الاطراف دعوة العالم الى الضغط على حكومة السودان لمراعاة حقوق الانسان واصلاح المادة 2010 من قانون الامن القومي، لتقليص السلطات الواسعة للجهاز والتي تتضمن سلطات الاعتقال دون رقابة عدلية. عندما يخضع المراقبون ما جرى من اعتقال وما اثار من تساؤلات وجدل في الداخل والخارج للتحليل والنظر الدقيق، يكون الناتج وبالا على البلاد. وبرغم ان السلطة الحكومية كما يبدو اعتبرت الاعتقالات احدى الممارسات الطبيعية لاجهزة مفوضة دستورا وقانونا للقيام بما تعتقده مناسبا لمجمل الاوضاع السيايسة الامنية. من المفارقات ان الشجب كان واسعا من قبل القانونيين وخاصة الاجيال الصاعدة من دارفور لتقديم المعتقلين تحت اي اتهامات الى محاكمات مشهودة، ليتأكد الجميع من الاوضاع الانسانية والاقتصادية والاجتماعية المتدنية التي يعيشها المعتقلون. في ظل ظروف يثبت فيها المراجع العام عاما بعد عام حجم الفساد المسكوت عنه حكوميا، وفي هذا الشأن وبتقديرهم ان المعتقلين ابرياء حتى يقدموا الى قاضي طبيعي ليقرر بشأنهم وفق القانون. لقد اطلع المركز السوداني للخدمات الصحافية الرأي العام السوداني على ادانة السلطات الامنية المسبقة للمعتقلين وتجريمهم، فقد قالت تلك السلطات ان المجموعة التي تم توقيفها لا علاقة لها بالعمل الانساني او المدني، وانها تعمل تحت مظلة منظمة تمثل «ساترا وهمياً» لاذاعة دبنقا التي لا تملك تصريحا بالعمل في البلاد، وان المعلومات المتوفرة لديها تفيد بتعيين احدهم مسؤولا عن الاذاعة بالسودان في يناير 2009، اضافة الى ذلك فان الاذاعة تهدف الى احراج الحكومة السودانية وإضعاف موقفها لدى المجتمع الدولي وتعريتها امام الرأي العام العالمي من خلال دعم المحكمة الجنائية، واعلاء دور المنظمات الاجنبية، والمجموعة بعد تتلقى دعما من منظمة هولندية من اجل التدريب الاذاعي وبتوفير 57 الف دولار لتأسيس مكتب السودان. ان هذه المعلومات التجريمية لن تقف على ساقين اذا لم تعرض على محكمة محترمة ذات اختصاص، انما هي وفي هذا السياق تقع ضمن قضايا الرأي العام التي قد يذهب الافراد فيها ضحايا من اجل مصلحة عامة متوهمة، تماما كقضية دريفوس المشهورة بفرنسا قبل عقود طويلة، حتى عندما تتضح الحقيقة لاحقا وفي احيان متأخرا تكون العقوبة قد وقعت على برئ وفي الاساس تخالف الواقع، كما كشف اميل زولا الملابسات حول قضية دريفوس تحت شعار «انا اتهم...» ان الواقع الذي تعيشه البلاد في دارفور، يؤكد ان النزاع المسلح الذي جرى فيه لقرابة عقد من الزمان، ستنتهي تسويته لصالح كل المجموعات السكانية في دارفور اثنيا وقبليا وسياسيا، واي تسوية محتملة تضع المعالم المستقبلية لدارفور والتي تزدهر بالسلام والتنمية والديمقراطية، كاقليم سوداني بالتراضي او التفاوض او الاستفتاء. وفي سياق هذه الصورة المستقبلية الاكيدة الحدوث فان ناشطي اليوم صحافيا وقانونيا وسياسيا واقتصاديا من الاجيال الصاعدة انما هم في خاتم المطاف صمام الامان للمضي قدما بمواطنيهم الى المستقبل باستنارة وبصيرة برغم ما حدث ويحدث جراء النزاع المسلح تحت التسوية اليوم. بتلك الخلفية فان الحكومة في اطار التحول الديمقراطي انما عليها فسح المجال للناشطين الدارفوريين للعمل معها بوجهات نظرهم، اذ انها تدرك ان الدارفوريين هم من يتولون شؤون اقليمهم اليوم، ويتطلعون الى تطوير قدراتهم بمختلف الناشذين حتى تكتمل العملية السلمية في اقرب وقت ممكن بعون لطيف من الله تعالى. من بين النماذج التي يمكن ان تحسب للحكومة في الشأن الدارفوري، ان الراحل مجذوب الخليفة بعد قيام السلطة الانتقالية اخذ بالرأي القائل، ان الاعلام عنصر هام لاستقرار الاوضاع وتشجيع الاطراف للحوار من اجل السلام بدارفور، ومن ذلك المنطلق حاول ان يتيح الفرص امام الدارفوريين من المشتغلين بالاعلام لمزيد من التدريب والعمل على استيعابهم في الاجهزة الاعلامية العامة في البلاد. زاد مجذوب على ذلك ان عمد الى تشجيع دورات تدريبية في مجال الاعلام للدارفوريين وقد شهدتُ احدى الاحتفالات بختام احدى الدورات بمركز طيبة برس «2006» مع استاذنا علي شمو الاعلامي السوداني الاشهر، حيث تعهد امام الدارسين ان يساهم مجلس الصحافة والمطبوعات بتقديم المزيد من فرص التدريب، فيما دعا مجذوب ممثلي الاجهزة الاعلامية والامنية في اجتماع مشترك للتشاور في تطوير تلك التجربة وقد تكونت فيما علمت لجنة برئاسة مدير عام سونا محمد حاتم يومئذ لمتابعة الاهتمام بتوفير الفرص للتعامل والحوار مع اعلاميي دارفور الذين سعوا الى تكوين رابطة، تراجع نشاطها باعتقال رئيس الرابطة وهجرته الى الولاياتالمتحدةالامريكية. مهما طال النزاع في دارفور، فان السلام سيحل ويشمل الاقليم بكل مكوناته واذا ما كانت هناك قدرات تدعم خطى الحوار من اجل السلام، فهي قدرات الناشطين من القانونيين والصحافيين والذين تم اعتقالهم ليسوا استثناء ومشهود لهم الاستمرارية في سياق حل الازمة، ولعل المقترح الذي يناسب حل النزاع الامني السياسي الراهن بين ممثلي اجهزة الامن وقواها السياسية من جانب والمعتقلين وقد توفر لهم حق الحرية والحماية ومعهم مؤسساتهم المشروعة من جانب آخر ان يقبلوا الانخراط في حوارات منتجة لدعم العملية السلمية والنظر في كيفية الاستفادة من القدرات الاعلامية القانونية في الداخل والخارج لانجاح العملية السلمية لدارفور وهي تتطلع اليوم بوعي الى بناء ذاتها الثقافية الاقتصادية ضمن التنوع السوداني الثري والقادر على التكامل الاقليمي افريقياً وعربياً، والمتطلع الى التعاون دولياً.