هاتفني ابي فور تمام قراءته لمقالي السابق «المنطلة منطلة الفيلة.. محظور حضور القردة».. وامرني ان اكتب تحت العنوان المذكور اعلاه لشئ في نفسه، قد ادركت بعضه.. استسمح القارئة والقارئ في ذلك. والدي يبلغ من العمر مائة ونيف عام وهو قد قرأ هذا المقال دون استخدام نضارة قراءة!!!» رغم انه قضي خمسين عاما يعمل في زريبة القطن في وظيفة فرّاز بكل من محالج تالودي وكادقلي ولقاوة، وهي وظيفة تتطلب منه أن ينظر ويفحص هذا القطن الابيض جيدا، قطن طويلة التيلة بمؤسسة جبال النوبة الزراعية طوال ساعات النهار. هذا المؤسسة التي تأسست في عام 1932م، كانت القلب النابض الذي يضخ الحياة في عروق جسد جنوب كردفان دوما، حتى بلغ الدخل للفرد بمدينة كاتشا حسب بعض التقارير أكثر من دخل الفرد بامريكا في الستينيات من هذا القرن، واحد جنيه سوداني تساوي قيمته اربعة دولار امريكي..!! واصبح السودان محط انظار المغتربين. يسافر مدرسو المدارس الاولية لقضاء اجازة الصيف في بيروت، ويشتري موظفوه منازل ببريطانيا من وفرات المرتب لا من الكومشن..!! كاتشا، المدينة التي نشأت بها دكتورة تابيتا بطرس وزيرة الصحة الحالية، حيث بها اشهر مدرسة وسطى لا تقل شهرتها عن ثانويات خور طقت ووداي سيدنا آنذاك، وقد قيل ان احد رجالها دخل سينما كادقلي بعد صرفه لكروت القطن لصحابها المرحوم عمر خليفة «الماسك الجنيه تعريفة» ولاول مرة، جلس في مصاطب الشعب الامامية، اثناء الفليم تراءت له كأنما عربة تندفع في الشاشة نحوه اندفاعا شديدا، وبسرعة وقف مذعورا !! وصاح «ام مه» برطانة قبيلة شاد النوبية. وكان ينادي عروسه التي كانت تتضاري خلفه خوفا من ان تدسهها العربة، فما كان منه الا ان قذف بعصاه نحو العربة لصدها او لهّشم الزجاج، ولكنه في الحقيقة لم يقذف الا الشاشة، فضج المشاهدون بالضحك وضحك مشاركهم الضحك ايضا ومستغربا، ضحكة امتص بها الحرج. واحدث ثراء هذا القطن حالة القنعنة، وهي حالة لا تشبه هستريا أهل غبيش شفاهم الله، ولكن هي ان نفر من اهالي جنوب كردفان من فرط غنائهم من عائد القطن، حيث «اطلت عليهم سنة خمي التي يقال في حقها، بخيتة للبلقاها» حيث ارتفعت اسعار القطن بشكل خرافي، وزاد دخل المزارع هنالك بشكل خرافي ايضا، فاصبح لا يدري كيف يصّرف هذا المبلغ «لا يغسله» الفائض عن حاجته..!! فبدأ كل يعبر عن حالة القنعنة بطريقته، فالبقارة احالوا اللبن مكان الماء، فاصبحوا يستحمون باللبن، وطلبوا من نسائهم ان يصوطوا العصيدة من اللبن وهي تسمى «وزينة عايمة» او «أم لبنين» ثم تخّضب بها النساء بدلا من الحناء، وفرشوا نقعة للرقصة ام ردوب بالروب، فقيل ان الله خسف بهم الارض، حيث جعل عاليها سافلها، ومازال الناس يسمعون اصوات ارجلهم تلعب رقصة ام مردوم من تحت الارض اسفل جبل طابولي بتالودي الى يومنا هذا..!! وزاد الطينة بلة، ان طائرة نفاثة ترى لاول مرة في سماء قرية الحمرة آنذاك «17 كليومتراً جنوب شرق كادقلي» وقد خلفت نفثها الابيض في كبد السماء، فافتي الفكي ام بتاري للناس انه سيف اسد الله الغالب سيدنا علي بن أبي طالب !!! كاول مقدمه للقيامة!! ، فهرع الناس في ذعر شديد الى الصلاة وطلب العفو من خصومهم، لكن احد الوعاظ قال للمصلين الذين ضاق بهم الجامع لاول مرة أنه عقاب القنعنة وقد دنا..!! فمؤسسة جبال النوبة كانت تحتضن الطلاب في الإجازات الصيفية، حيث أعمال الطلبة، «لا الخرجين» يدبرون من عائدها احتياجتهم الشخصية. وكانت تمتلك الناقل الوطني الوحيد!!! لنقل الطلبة في الخريف من القرى الى المدن بالتراكتور والترلة لوعورة الطرق، وإلا المشي على الارجل لمسافات قد تبلغ اكثر من مائتين كليومتر. وورثت المؤسسة منازل الانجليز الفخمة الصلبة التي مازالت تقف شاهدة على عزيمتهم، بل اعتمدتها ادارة الآثار قطعا اثرية مسجلة، منهم حي الافندية بمدينة كادقلي الذي مازال يصارع الاهمال ومازال به فضلة افندية..!! منهم منزل المفتش الانجليزي بمديرية جبال النوبة تالودي «قبل أن يغضب الانجليز لمقتل مديرهم ابو رفاسة ويرحّلوا الى الابيض» الذي أصبح منزل المفتش لمؤسسة جبال النوبة، حيث به اثنتي عشرة غرفة، قيل قول منسوب لمجهول ان احد المحافظين «تشاه» اي باعه في السوق بثمن بخس لاحد العسكريين بتالودي. وكذا تنامى الى مسامعي أيضا ان المحالج نفسها قد تم «تشها» في سوق الله اكبر، رغم أنها تمتلك سيور خطوط لانتاج الصابون وعصر الزيوت!!!. النميري «رحمه الله» اراد أن يرضي اهالي جنوب كردفان في زيارته الثانية عند افتتاح محافظة جنوب كردفان في عام 1977م، فأعلن قيام مصنع نسيج كادقلي للاستفادة من القطن المحلوج. والطريف ان هذا المصنع يبعد فقط خمسين مترا فقط من محلج قطن كادقلي، حيث يرسل القطن المحلوج لمسافة الف كليومتر بمارنجان بالجزيرة لغزل الخيوط التي تشحن مرة اخرى الى مصنع كادقلي لانتاج الدمورية..!! مؤسسة جبال النوبة كان يعمل بها خليط من السودانيين يتم نقلهم من بقاعه المختلفة وفق كشف موحد، حيث يمتزجون باهالي المنطقة، فيكتسبون ثقافة جديدة كانت كالترياق الذي يمتص النعرات العنصرية والانتماءات العرقية الضيقة، ويدفع بهم الى رحاب القومية الواسعة، فما ضرَّ ادارة الحكم المحلي لو أعادت الكشف المّوحد، خاصة وقد بدأت الخدمة المدنية تتعافى قليلا؟ فلا تسمع بأن احدا يّعّرف نفسه بقبيلته، ونمت الالفة والصداقات التي اثمر بعضها زيجات أصبحت ضمادات للتماسك الاجتماعي. كل هذا الثراء والتماسك الاجتماعي بذر بذرة انبتت سودان الخمسينيات والستينيات، وبعض السبعينيات كانت فترة النضوج السياسي والفكري للحكومات السودانية المتعاقبة، كيف لا وقد فجرت الثورات الشعبية لأول مرة في تاريخ افريقيا، بل وقيل إن نظامنا الاقتصادي كان لا يقوم على اي نوع من ضريبة قطّّّّ!!! كل هذا الزحم قام على اكتاف رجال مجهولون لا يعلم بهم احد الا الله، فهم الطوب الذي نسج منه البناء الوطني يوم ان غنى اطفال المدارس لمنقو زنمبيري.. «منقو قل لا عاش من يفصلنا». «وفي الاستفتاء القادم الكل ينظر بم يجيب منقو!» سيجيب على السؤال في القاهرة لا جوبا .. «وحققكم محفوظة يا أولاد بمبا» غنت صبايا المدارس الحسان: اي صوت زار بالامس خيالي انه صوتي أنا..!! وشهد هذا العصر ميلاد العمالقة البروفيسور عبد الله الطيب في اللغة، وفي الشعر التيجاني يوسف بشير، والبروفيسور محجوب عبيد في الفيزياء، والقاص الطيب صالح في الادب والرواية، وعلي المك وغيرهم. وفي الغناء عبد الكريم الكابلي ومحمد الامين ووردي وعثمان حسين وصلاح بن البادية وعبد العزيز محمد داؤود والفنانة حوة الطقطاقة وعشة الفلاتية وغيرهم، وفي الكورة كجسا وصديق منزول ومحمد حسين كسلا وبشارة وقاقارين، وفي السياسة محمد احمد محجوب وجوزيف لاقو ووليم دينق والوزير منعم منصور وابراهيم دريج وغيرهم. وفي العسكرية اللواء حسن بشير نصر والاميرألاي عبد الله خليل والفريق عبد الماجد حامد خليل وغيرهم. في القانون بروفيسور دينا شيخ الدين، والقاضي ابورنات، ومولانا هنري رياض ومولانا دفع الله الرضي، ومولانا دفع الله الحاج يوسف وغيرهم. وفي علوم الاتصال علي شمو، وفي الطب كاشان، وأبو عشة ودكتور الجزولي دفع الله وصالح فضيل وغيرهم. وفي التعليم الأستاذ سر الختم الخليفة، والاستاذ محمود قديل والاستاذ موك دينق. وفي المسرح وفي السينما وفي كل دروب حركة البشر على صفحة مكعب الطين على حد تعبير د. منصور خالد.. الذين صنعوا هذا العصر هم الخيول التي تملأ عرصات هذا الوطن بالعمل البطولي والعزيمة القوية، ولكن الذين سرقوا مفاتيح الشكر ونسبوا انجازات غيرهم لانفسهم، نسوا وعد الله «الذين يحبون أن يحمدوا بم لم يفعلوا فبشرهم بعذاب أليم» صدق الله العظيم. فالذين يفعلون ويحمد غيرهم هم مثل الخيل التي تتحرك في العرضة وينسب كل جهدها لغيرها، فيقال «الخيل يجقلبن والشكر لحماد» وحماد رمزية للانتهازي «ومعذرة لكل من سمَّته أمه حماداً». فالسلام الذي لاحت بواكيره كالشّبال في رقصة الفنفانج في الدوحة، صنع من عرق ودماء واشلاء مجهولين ضحوا بشهرتهم والجزء المخفي من جبل الجليد، ومازلت خيولهم تجقلب والشكر لهم لا لحّماد. والتحية لهم ولمنظمات المجتمع المدني التي مازالت ثمرة في الدوحة لم تنضج بعد.