السودانيون يعشقون السياسة ويعشقون معها التسامح السياسي، ودليلنا على هذا أن قادة العهد الشمولي الأول والثاني واللذين أُسقطا عبر ثورتين شعبيتين ظلوا يعيشون بيننا معززين مكرمين كسائر المواطنين . هذا السلوك المتسامح قلّ أن تجده في دول العالم الثالث والدول المجاورة والأمثلة كثيرة وأسماء القادة متعددة .. نوري السعيد وعبدالكريم قاسم وصدام حسين في العراق.. نور الدين الأتاسي وصلاح جديد ويوسف زعين وإبراهيم ماخوس في سوريا.. ذو الفقار علي بوتو في باكستان.. باتريس لوممبا في الكونجو ،نيكولاي شاوشيسكو في رومانيا وغيرهم ... كل هؤلاء القادة والزعماء تم البطش بهم ما أن غربت شمس حكمهم وما أن تقوضت أركان نظمهم السياسية. ونحمد الله أن الحياة السياسية في السودان على مختلف عهودها لم تعرف الاغتيال السياسي الا في جرائم معدودة ،بينما سجل الدول الإقليمية حافل بهذه الجرائم ، ودونك لبنان الذي لم تشفع ديمقراطيته الطائفية في تخليصه من هذا الإثم ، فتم اغتيال العديد من رؤساء الدولة ورؤساء الوزارة وكبار الساسة أمثال رينيه معوض وبشير الجميل ورشيد كرامي ورفيق الحريري وكمال جنبلاط وغيرهم. والهند أعرق الديمقراطيات في العالم الثالث والمثال المحتذى مضى قادتها مخضبين بالدماء بدءاً من المهاتما غاندي وأنديرا ابنة نهرو وابنها راجيف وكذلك الحال في باكستان وسيرلانكا . كذلك نحمد لله أن السودان لم يشهد حروباً أهلية بالمعنى الدقيق لهذا النوع من الحروب، فالبنادق التي ارتفعت في الجنوب ودارفور ظلت مطالبها محصورة في إعادة اقتسام السلطة والثروة ورفع الغبن الاجتماعي ولم تكن نتاجاً لاستعلاء دين أو عرق، ورغم الوقود الديني الذي سُكب في التسعينيات ظلت هذه الحروب نزاعاً بين المركز والأطراف دون أن يخوض فيها الشعب بأعراقه ومذهبياته المتعددة. كل هذا الإرث من التسامح السياسي الحميد يمكن أن يُبدد على وقع التنابذ وساقط القول والفجور في الخصومة السياسية.