من مذياع العربة الهايس (شريحة) مكيفة الهواء ،انسرب صوت احد المغنين الشعبيين صاخبا بأغنية (كلمنى الساعة كم) التى وجدت تجاوبا من اذن المتلقى السودانى بصوت الفنان الرائع حسين شندى . الاغنية بصخبها والعربة (الشريحة) تنهب الارض من منطقة الحاج يوسف بالخرطوم بحرى نحو السوق العربى ، يبدو انها لم تسترع انتباه غيرى من ركاب (الهايس) الثمانية ، وسائقها العشريني والذى بدا طربا من وحى ترديده بصوت مسموع مع الجوقة (الكورس) وهم يمعنون فى اظهار مقدرتهم على التطريب مرددين خلف الفنان الساعة كم انا خايف ..انا خايف …ميعادو حان ..انا خايف ..انا خايف ، يكون نسي الميعاد وجدد صدوده وعاد انا ذنبى (ايه طمنى ايه الاخرو منى). ومابين الخوف من لقاء المحبوب بحسب تعبير شاعر الاغنية واحتمالات الغياب عن الموعد ، يظل الخوف من الزمن واهميته واحترامه وتجاهله متداخلات لا تجعل منه احساسا داخليا فقط ،وانما محور لحركة الجميع بلا استثناء ، ومرتبطا ارتباطا عضويا بايقاع ودورة الحياة. وحتى سائق الهايس وهو يعمل يديه ورجليه فى مقود ومكبح عربته كان يسابق الزمن للوصول الى محطة بالتأكيد ليست الاخيرة ، ليتحرك منها مسرعا الى اخرى . لذلك كان الزمن قبل ان يغيب فى غمرته حسين شندى ولها وشجنا وخوفا من لقاء المحبوب وكل من تغنوا له ايذانا ببداية حياة ونهايتها فى وقت واحد . ولاهميته اخترعت الساعات وتبارت الشركات فى صناعتها ودقة وجمال تصاميها للحد الذى اخذت معه عدة اشكال وتصنيفات من ساعة الجيب الى الساعة الرقمية والنسائية والرجالية التى اصبحت الان كلها مظاهر من مظاهر التجمل والاناقة مع ظهور ثورة التكنولجيا والهواتف الذكية . ولكن بالتأكيد مازال هناك من يتقيد بسوار الساعة فى معصمه ،ويجد راحة نفسية كبيرة وهو يقربها الى وجهه بحثا عن ميقات ربما لم يكن بذى اهمية بالنسبة له . احترام الزمن وللاسف الشديد اصبح سمة من سمات الغربيين ، وان كنا الاحق باحترامه بالنظر الى ان احترام المواعيد سمة مميزة للمسلم الملتزم، وإن احترام المواعيد من أهم عوامل النجاح في الحياة. اهمالنا للزمن فيه ضياع للامم وطمر حضارتها ، و مقابله قد تروح انفس بريئة واموال طائلة ومصالح مهمة ربما لاتعود باستحالة عودة الزمان للوراء ،وفى احترامنا له صون لارواح وزيادة فى الرزق وحفاظ لمصالح اناس يتوجب ان تقضي ، وغير ذلك فهو مقياس لتقدم الامم وتحضرها وبقائها. ولاهميته اقسم الله تعالى بأوقات وأزمنة، وحدد به مواقيت للعبادات من صوم وصلاة وحج ، وجعل من مخالفة العهد والوعد المرتبطين بالزمن اثما يحاسب عليه. ومما يؤسف له ان اهمال الزمن وضرب عرض الحائط به وسط شرائح واسعة اوجد من العدم عبارة (مواعيد سودانيين) وهى كناية ذات معنى سالب يقلل من كل ما هو جميل عندنا ولايعبر بأية حال من الاحوال عن ذات الشخصية السودانية فى محيطنا الافريقيى والعربى والتى اشتهرت بالدقة والتفانى والاخلاص فى العمل حتى اصبح السودانى هناك مثالا يحتذى وسلعة نادرة تشتهى. والمفارقة المدهشة انه ذات العنصر (الزول ) بشحمه ولحمه وكل تفاصيله وان تغير المكان فالزمان هو الزمان ،وليقيننا باستحالة جر ساعة الزمن الى الوراء قليلا ،نكتفى بإرسال تمنياتنا وامالنا بلقاء (المحبوب) السودانى بتفاصيل وسمات الزمن الجميل الغابر ، ولكن الخوف من عدم تحقيق تلك الامانى والامال ولقاء السودانى (الكان زمان) ، كخوف وتحسر الشاعر من لقاء المحبوب الذى لم يعرف الى الان هل ( نسي الميعاد ام جدد صدوده وعاد ..؟).