قال لي البعض إن أصوات السكارى أكرم وأبرك من أصوات آكلي أموال الشعب بشتى الوسائل ومذيقيه مختلف ألوان الهوان والعذاب من محدثي النعم الذين تطاولوا في البنيان وامتطوا الفارهات وجرت الدنانير والدولارات في أيديهم وتخيروا الحسان من الثيبات والأبكار، وتزوجوا منهن مثنى وثلاث ورباع ،وهم الذين كانوا إلى عهدٍ قريب حفاة عراة، وكأنما كانت هجرتهم المدعاة إلى الله لدنيا يصيبونها أو نساء ينكحونهن وقد حصلوا على ما «هاجروا» إليه على ظهر دبابة اغتصبوا بها السلطة القائمة، ثم مضى القائلون يعددون مظاهر الفساد المالي والسياسي ويحصون امارات وعلامات البطش والتنكيل التي حاقت بمخالفيهم الرأي والتوجه السياسي مما لو حاولت إيراد غبائنهم ومآخذهم هنا لما وسعته هذه الصحيفة بصفحاتها الست عشرة، فصحت فيهم حسبكم حسبكم وحسبنا الله ونعم الوكيل، لقد أورثتموني الندم على ما كتبته حول أصوات السكارى، وما كنت أصلاً في حاجة لهجمتكم المضرية هذه لكي أعرف أن السلطة المطلقة ستتحول لا محالة إلى مفسدة مطلقة، فهذا ما يقوله التاريخ الإنساني، تاريخاً إسلامياً كان أو علمانياً، فحيثما وجدت سلطة قابضة وقاهرة ومهيمنة وُجد معها الفساد الذي لا يزدهر وينتعش ويستشري إلا في مثل هذه البيئة السلطوية السلعلعية السعلاة التي يبدأ الفساد فيها من الرأس مثل الأسماك وهو ليس فساداً بمعناه المعتاد سرقة الأموال العامة بادعاء مختلف التبريرات أو تحت اسم فقه الضرورات فحسب بل هو فساد يتمدد ليعيد توزيع الثروة بطريقة تضمن الولاء السلطوي للسلطة القابضة حيث تبدأ هذه الظاهرة في التنزل إلى تحت وهكذا يتم تبادل كرة الفساد من فوق إلى تحت ومن تحت إلى فوق في عملية دائرية لولبية تجعل السلطة والمال لا يحيدان عن هذا الخط المرسوم بعناية فيصبحان دولة بينهم، وأيما سلطة مطلقة ومهما إدعت البراءة فإنها ليست بمنجاة من هذه الدائرة الخبيثة ما لم تتخلّ عن تسلّطها وجبروتها على الآخرين الذين لا تريهم إلا ما ترى ولا تسمع منهم إلا ما تريد... وكذلك لم أكن في حاجة لأمثلة هؤلاء القائلين الأعزاء وليس بي شغف لإلتقاط استشهاداتهم التي أمطروني بها في معرض دفاعهم عن أصوات السكارى في مقابل أصوات ناهبي أموال الشعب ومذليه فقد كفتني منذ سنوات شهادات الدكتور الترابي الذي كان فيهم العرّاب الأكبر وأبو القدح الأخطر الذي يعرف من أين تؤكل الكتف وأين يعض أتباعه ورفاقه السابقين، ومما كان قد قاله في هذا الصدد أن المفسدين لم يعودوا يبالون بفسادهم ولا يحرصون على ستر مفاسدهم فأصبحت الكثير من (الأوراق) مكشوفة وظاهرة وقدّم على ذلك دليلين لمسؤولين قال إن أحدهما يمتلك خمس بنايات شاهقة وخمسا وعشرين قطعة أرض والآخر تمتلك أسرته مائة وثمانين بناية فاخرة، فهل تروني بعد ذلك في حاجة لزيادة من أي مستزيد، لا والله، بل الذي أنا في حاجة إليه هو فتوى تفض الاشتباك بين أيها أكرم وأبرك، أصوات السكارى أم أصوات الرعاة الحفاة الذين تطاولوا في البنيان على النحو الذي جاء في الحديث الشريف وحذّر منه، فهل من مفتٍ؟...