تمثل قضية الاستفتاء على جنوب السودان آخر فصول اتفاقية السلام الشامل والتي تم توقيعها في العام 2005م ، وتبقت أيام معدودات ويسدل الستار على عملية التسجيل والتي قاطعها المواطن الجنوبي لاسباب كثيرة ومختلفة ، منها بسبب التهديدات والرعب الذي مارسه الشريكان قولاً وعملاً في حقه الدستوري ، وبعدم قناعة بعض المواطنين الجنوبيين بمبدأ الاستفتاء وحق تقرير المصير ، وكذلك بسبب الفوضى التي مارسها شريكا نيفاشا من اتهامات لبعضهما والتي أدت إلى عدم حسم أمر تكوين مفوضية استفتاء جنوب السودان إلا بعد ولادة قيصرية والتي جاءت متأخرة بثلاثة أشهر عن موعدها المحدد ، والتي أنجبت فأراً شكلاً ومضموناً نسبة للاخطاء الكبيرة التي وقعت فيها والتي لا يمكن السكوت عنها ومن المتوقع أن تسبب أزمة سياسية دستورية ، والتي تتمثل في اختيارها لكل أعضاء مراكز التسجيل من كوادر الحركة الشعبية والذين تنقصهم شروط الاهلية في العمر وقلة الخبرة في معرفة أسماء القبائل الجنوبية وسماتها ، ووقوعهم في فخ عدم معرفة الأسماء الاسلامية الجنوبية السائدة من أسماء الشهور رجب ورمضان وقصّير وربيع ، ومن الأيام من خميس وجمعة وسبت ، ومن الاسماء المضافة فرج الله وفضل المولى وعلى الله والله جابو إلى آخره. بالإضافة إلى استسلام المفوضية للعراقيل التي وضعها الشريكان أمامها من ضعف التمويل والدعم اللوجستي ، ومن كبرى الأخطاء أن المفوضية لم تستطع القيام بحملة إعلامية شاملة لتنوير المواطن الجنوبي عن ما هية الاستفتاء ومآلاته والدور المطلوب أن يلعبه المواطن المستهدف ، بل تركت الأمر إلى السياسيين ومنظمات المجتمع المدني التي إجتهدت في تنظيم مناشط الاستفتاء لتحقيق أهدافها والتي لم ترق إلى الأهداف الوطنية ويمكن القول بأن ضعف المفوضية قد فتح الباب واسعاً أمام الشريكين للقيام بحملات تعبوية مشوشة سالبة والتي اشتملت على تهديد المواطن الجنوبي المقيم في الشمال بالطرد وعدم اعطائه الحقنة في حال الانفصال ، والمبالغة في منعه المحفزات مثل الجنسية المزدوجة والحريات الأربع إذا صوت للانفصال. هكذا بدأت حملات الاستفتاء مشوشة لدى المواطن الجنوبي بين التهديد والوعيد من جانب المؤتمر الوطني وجملة من المحفزات من جانب الحركة الشعبية فأصبح المواطن في حيرة من أمر هذه الأطروحات والتي وضعته بين المطرقة والسندان وهو الذي لا يعرف ما معنى الاستفتاء وما معنى تقرير المصير وما معنى البقاء في الشمال والرحيل للجنوب. فالمواطن الجنوبي الذي يسكن تحت عمارة في مرحلة البناء والتشييد في حي المهندسين ومدينة النيل وفي الطائف والمعمورة والمنشية ، والذين يقيمون في أطراف العاصمة ( المناطق المهمشة) في جون مديت وجبرونه ورأس الشيطان وفي الجبل والكلاكلات وفي جنائن الإزيرقاب مع الأخ/ فتح الرحمن والكدرو وإلى آخره ، لا يفهمون هذه المعاني ولا الأهداف المطلوبة منهم. وما أن بدأت معركة التسجيل للاستفتاء حتى تغيرت لغة الشريكين في استقطاب المواطن الجنوبي للتسجيل ، فقد اختار المؤتمر الوطني منهج الخطاب العاطفي في التعبئة للوحدة أن قوة السودان تكمن في وحدته ، وأن الجنوب والشمال تربطهما علاقات تاريخية واجتماعية ، وعلاقات اقتصادية وثقافية يصعب الفصل بينها ، وفي تقديري أن هذه الاسباب غير كافية لاقناع المواطن الجنوبي بالوحدة وفي هذا الإطار قدم السيد/ عمر البشير رئيس الجمهورية أمام البرلمان في الشهر الماضي مقترحاً لتطوير اتفاقية السلام الشامل في السلطة والثروة ، ولكن يبدو أن قطار الوحدة قد ولى من غير رجعة ، وذلك بسبب المعاكسات التي يقوم بها العاملون بمراكز الاستفتاء حرصاً منهم لتقليل عدد الناخبين الجنوبيين في الولايات الشمالية وبصفة خاصة ولاية الخرطوم والتي من المتوقع أن لا يزيد عدد المسجلين فيها أكثر من عشرين الف ، وبالتالي لا تزيد عن مركز واحد للاقتراع وبما أن قراءة نتيجة الاستفتاء أصبحت واضحة لكل سوداني متابع لمجريات الاستفتاء فإننا نقترح على قيادة المؤتمر الوطني تقديم محفزات أكبر وأقوى طمعاً فى لحاق القطار ، أو الاعتراف ومباركة انفصال الجنوب لخلق علاقات جيدة بين الدولتين. أما الحركة الشعبية فقد غيرت خطابها في التسجيل من حزب كان يوفر محفزات للمواطن الجنوبي المقيم في الشمال والذي يصوت للانفصال بمنحه الجنسية المزدوجة وكفالة الحريات الأربع ، فقد غيرت موقفها إلى حزب يحرض المواطن الجنوبي بعدم التسجيل في الشمال بحجة أن النتيجة سوف تزور (Forgery) ، لذلك عليه التوجه إلى الجنوب للتسجيل والتصويت للانفصال ، وأن المواطن الجنوبي الذي يصر على التسجيل في الشمال سيكون مصيره الضرب والقتل والشاهد على ذلك حادثة مداهمة منزل الناشطة في المؤتمر الوطني إنجلينا ومهاجمة بعض السلاطين في مراكز بحري والكلاكلات وأم درمان وقد إستطاعت الحركة الشعبية أن تستفيد من الثغرات القانونية التي توجد في قانون الاستفتاء والتي لم تحدد عدد الذين يحق لهم التسجيل ليقرروا مصير الجنوب ال corum ، فمهما كان عدد المسجلين ضعيفاً ولم يصل إلى المليون شخص فإنهم حتماً سيقررون انفصال الجنوب ، وقد استطاعت كذلك حشد عضويتها الملتزمة في كل مراكز الاستفتاء في الشمال والجنوب ، دون إدخال عناصر أخرى ولو من الاحزاب التي تشاركها التوجه الانفصالي ، ومع ذلك تظل مقاطعة المواطن الجنوبي لعملية الاستفتاء تشكل حاجزاً يؤرق الحركة الشعبية في الجنوب ، لذلك قامت بتنظيم طوافات تعبوية على مستوى عالى لاقناع المواطنين الجنوبيين الرافضين للتسجيل ، فقد زار ولاية الوحدة السيد/ رياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب ، والسيد/ واني ايقا رئيس المجلس التشريعي بالتناوب لأغراض التعبئة ، وتم تكليف حكام الولايات بالطواف على المقاطعات لمتابعة التسجيل ، وأخيراً فقد أصدر السيد/ سلفاكير رئيس حكومة الجنوب قراراً بمنح إجازة خمسة أيام للعاملين في الجنوب لأغراض التسجيل ، وهذا يدل على مستوى رفض المواطن الجنوبي للتسجيل وحرص الحركة الشعبية على رفع عدد المسجلين في الجنوب لتحقيق مبدأ الانفصال بنسبة كبيرة. والآن يمكن القول إن المواطن الجنوبي المقيم في الشمال والجنوب يعيش في أسوأ حالات الخوف والرعب والهلع نتيجة لممارسات وأفعال الشريكين تجاهه ، وأن مصطلح الاستفتاء وتقرير المصير أصبح له مدلولات خاصة به وقد دخل الى بيته الصغير ، وأن هذه المصطلحات غير المفهومة أصبحت حديث الساعة في كل بيت جنوبي وأصبحت المواقف تتشكل على ضوء ذلك والآن أصبحت كل أسرة مقسمة إلى دعاة وحدة وانفصال وإن الحوارات في داخل البيوت والتي كانت تدار على نار هادئة أصبحت تأخذ طابع الاثارة والسخونة برغم من قدوم فصل الشتاء ، وأصبح أصحاب الانصهار الاجتماعي من الجنوبيين والجنوبيات وخاصة الذين تزوجوا بالشماليات أكثر الفئات دفعاً لثمن الانفصال إذ تتمسك بعض الزوجات بالبقاء في الشمال مع ذويها بينما يرفض الزوج أن يكون أجنبياً في الشمال مع أبنائه ، أما الجنوبي من ناحية الأم فقد فضل أن لا يسجل ولا يصوت مختاراً الانضمام إلى بني عمومته في الشمال ، وأما الشمالي المقيم في الجنوب قبل عام 1956م فإن معظمهم قد غلبت عليهم المصلحة فاختاروا الانضمام إلى الجنوب ليتمكنوا من ممارسة تجارتهم وزراعتهم ، وانضمت إلى هذه الفئة القبائل الرعوية العربية وما شكوى قبائل السليم وأولاد حميد ورفاعة والمسلمية وكل دار محارب بأعالي النيل لحكومة الجنوب إلا دليلاً لما ذهبنا إليه. وهكذا أصبح المجتمع الجنوبي يعيش في مأساة وتراجيديا نيفاشا والتي تم اعداد سيناريوهاتها بصورة دقيقة في الغرب وأمريكا على أساس أن المواطن الجنوبي خير من يدفع ثمن هذه الفاتورة الباهظة لاستفتاء تنقصه الشفافية والنزاهة والحرية ، وأن المسألة لم تكن سياسية فحسب بل تتجاوزذلك وتمتد إلى التفكك الأسري ، فقد تفرق بين الزوجين والأب وأبنائه ، وبين الأخوة في العشيرة ، وكذلك القبيلة وهكذا صار الاستفتاء ( شيطان) يفرق بين المرء وزوجه ، وما زالت الأيام حبلى وما ندري ماذا تخفيه الأقدار. والله من وراء القصد ،،،