والدهر ليس بمعتب من يجزع وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع في يوم أطل الحزن بنفسه، فاستجمعت طاقات الرجال في الخرطوم وحلفا وأم روابة ولندن، لتبكي العملاق عمر عثمان. رحم الله العم والصديق عمر عثمان محمد صالح، وأنزله منزل الرضاء والرضوان، فقد كان جوهراً فرداً، بقية من عقد وضيء، ما ضرهم ما فعلوا، بعد أن أعطوا هذا الوطن أعز ما يملك من قيم وسماحة، وبذل وعطاء، فامتزج تاريخهم بتاريخه في رباط مقدس. رحم الله العم والصديق صمته كتاب.. سميك غلافه وشفيف وحديثه كتاب.. قوية حروفه وندية وحياته كتاب.. سطورها فعل الخير والإيثار، والسعي في ما ينفع العباد والبلاد. ويعتبر الراحل أحد أعمدة الاقتصاد الوطني، برع في صناعة الزيوت، فكان رائداً من رواد الصناعة الوطنية، أبحر في عبابها، وفتح لها منافذ للتسويق في الخارج، في تجربة جديرة بالتأمل والاقتداء. وعلاقتي بالراحل العم والصديق عمر، بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي، عندما بدأت العمل مع الوالد في مجال الزيوت، فلقد كانت تربطه بالوالد علاقة متينة وقوية، فأصبحت ابناً له وصديقاً، وكان ملاذي، متى استشكل علىَّ أمر، خاصة عندما يكون الوالد في سفرية خارج البلاد، فما كان يبخل علىَّ بالنصيحة والمعلومة في مجال العمل أو حتى في الأمور الشخصية، وتطورت العلاقات بيننا، فكنا نلتقي كل يوم، ساعتين من الزمان في المساء وسط الخرطوم، يطلق عليه اسم «الوكالة»، انضممت الى «الوكالة» التي كانت عامرة بالمرحوم بشير النفيدي، والمرحوم عبد الباقي عوض الله، والمرحوم الشاذلي الشيخ الريح، والمرحوم بابكر أبو سنون، والمرحوم حسن مكي.. كنت أذهب في البداية برفقة الوالد، ثم صرت عضواً منتظماً في الوكالة مع السر التني، وطلحة الياس، وحسن حامد، وعلي المادح، وفيصل بابكر ومحمد صالح إدريس الذي لم يكن منتظماً في الحضور لأسفاره الكثيرة، رغم أننا كنا نجلس أمام عمارته. وكان العم والصديق عمر عثمان هو ريحانة المجلس وأكثرنا حرصاً عليه، قال لي مرة إن تلكما الساعتين التي نقضيهما في الوكالة لا تعوضان بالدنيا كلها. وكان يحضر ومعه أحياناً «تورته فاخرة» فنعرف أن المناسبة عيد ميلاد أحد أحفاده «حفظهم الله» فنشاركه الفرحة، وكان يصرُّ علينا أن نحضر أيام الجمعة.. فما كان يريد غياباً لجلسة الوكالة، فقد كان يحرص على اللقاءات بشكل شديد، وأذكر قبل شهور كنت على موعد معه، في الثامنة والنصف مساءً، فهاتفته عند الثامنة اعتذر عن الحضور لانقطاع التيار الكهربائى في منزلي، فرد علىَّ بعتاب كله مودة: ما علاقة انقطاع التيار الكهربائي بمنزلكم، بموعدنا.. فكنت خلال نصف ساعة عنده بالمنزل. كنا مجموعة من أبناء أصدقائه نزاحمهم في صحبته ومؤانسته ، وكنا نطلق عليه (عمي عمر) حتى بعد أن تجاوزت أعمارنا الأربعينات والخمسينات عاماً ما زال هو عمي عمر، وعندما نكون بصحبته كأننا أطفال في يوم العيد. وكنا أحياناً إذا جاء في زيارة لآبائنا نلاقيه، ونذكر له أنهم غير موجودين حتى ننفرد بمصاحبته وتمضية أكبر وقت معه ونواصل معه بقية جولاته. لقد تعلمت من العم الراحل عمر عثمان الكثير، فلقد كان رجلاً عالماً ومثقفاً، مواهبه عظيمة، لم تتصحر ولم تصدأ، دعمها بالتعليم الأكاديمي، والانفتاح الثقافي والنظر في تجارب الأمم المختلفة. أذكر مرة ونحن في سفرية خارج السودان، أشرت اليه إلى مقال عن فظائع القنبلة الذرية التي أُلقيت على مدينة هورشيما اليابانية، فحدثني عن أهوال تلك الحادثة بتفاصيل، فسألته إن كان قد قرأ المقالة، فقال لي لا، لكنني عاصرت تلك الأحداث وأعرف تفاصيلها. وكان منذ بداياته، متابعاً لحركة الأسواق العالمية ومؤشرات الاقتصاد الكونية، فكان معنياً بالأرقام والإحصاءات ودراسات الجدوى، لا يقدم على مشروع إلا بعد تمحيص ونظر، ولهذا السبب كانت مشاريعه تكلل بالنجاح. وكان يطبق نظاماً للجودة، يعلي من الصدق في التعامل، واتقان العمل، واحترام الزبون، قبل أن تكون للجودة مسميات لاتينية، وعلامات توضع بعد إجراءات معقدة، كان ينفذ برنامجاً مطبوعاً في جيناته، وهو برنامج الضمير الحي، الذي ورثه عن أهله، وعض عليه بالنواجذ، لم يعرف «الاستهبال» ولا «الفهلوة» ولا «الاحتيال». ü رحم الله العم والصديق عمر عثمان محمد صالح، عاش أيام عمره بين الناس في وئام ومحبة، ما عرف الخصام باباً إلى قلبه ولا القطيعة، عاش سمحاً متسامحاً، ووهب حياته لوطنه وأبناء وطنه، أسهم في تأسيس الصناعة الوطنية، وأوقد جذوة الاقتصاد القومي، وعاش بين الناس بسيطاً في تعامله، ورقيقاً كالنسمة. رحم الله عمنا عمر عثمان.. فإذا المنية أقبلت لا تدفع فإن جزعنا فإن الشر أجزعنا وإن صبرنا فإنا معشر صبر ü التعازي لأسرته الصغيرة، وتلك الممتدة في أوصال الوطن وفي في كل ربوعه. اللهم ارحمه ووسع مرقده وانزله منزل صدق مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. «إنا لله وإنا إليه راجعون»