ما زالت الانتخابات السودانية على الرغم من أنه تبقّت عشرة أيام فقط لإجراء عملية الاقتراع في 11 – 13 إبريل 2010، ضمن المراحل الختامية للعملية الانتخابية، يكتنفها الكثير من الغموض، وضبابية المشهد، وتُثار حولها تهديدات قوى تحالف إعلان جوبا بمقاطعتها؛ إذا لم يتوافق المؤتمر الوطني، والمفوضية القومية للانتخابات على تأجيلها إلى نوفمبر المقبل. وأحسب أن الجميع يتفق على أن الانتخابات الديمقراطية هي السبيل الأنجع إلى إنفاذ استحقاقات التحول الديمقراطي في المجتمعات الإنسانية. وأنه من مقاصد الانتخابات الكُلية؛ إيجاد سبيل إلى تنفيذ آلية التمثيل النيابي؛ حتى تستند الحكومة المنتخبة في ممارسة السلطة إلى عنصر التفويض الشعبي- من خلال المشاركة السياسية للناخبين-؛ في عملية صنع القرارات؛ عبر عملية الاقتراع؛ لذلك من الضروري أن تتّسم أي عملية انتخابية بالحرية، والنزاهة. وغير خافٍ على الكثيرين أن الاستحقاقات الانتخابية على مستوى العالم، حصلت على زخم كبير بعد سلسلة أحداث التحول الديمقراطي- التي شهدتها الكثير من دول العالم خلال العقدين الأخيرين-؛ إذ أجريت انتخابات عامة للحصول على الشرعية الشعبية، بُغية تحقيق هدف رئيس، ألا وهو التحول الديمقراطي الحقيقي المستند على التشريعات، والقوانين المنظمة لهذا التحول الديمقراطي في هذه البلاد التي انتظمت في ممارسة الاستحقاقات الانتخابية. وعند الكثير من الباحثين السياسيين مفهوم الانتخابات الديمقراطية يشكّل الأساس في النظم الديمقراطية، وذلك منذ أن عرّف البروفيسور جوزيف شومبيتر الديمقراطية: على أنها مجموعة من الإجراءات، والمؤسسات التي يستطيع الأفراد من خلالها المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية عن طريق التنافس في انتخابات حرة. ولكن من الضروري هنا الإشارة إلى أنه لا يوجد تعريف متفق عليه بين المهتمين بالشأن الانتخابي، أو تحديداً الاتفاق على مجموعة من المعايير القاطعة التي تُحدّد حقيقة معالم الانتخابات الحرّة، والنزيهة، ومن ثمّ فمن الصعوبة إيجاد منهجية واحدة- يمكن من خلالها- وضع مؤشرات محدّدة، وشاملة للانتخابات الديمقراطية. وفي حقيقة الأمر إن اتّصاف الانتخابات بالحرية الكاملة، والنزاهة الشاملة، مسألة نسبية، تتفاوت من مجتمع إلى آخر. أما فيما يتعلق بالاستحقاقات الانتخابية في السودان- التي جاء العمل على إنفاذها-؛ استجابةً لإنفاذ استحقاقات اتفاقية نيفاشا، فقد أحدثت حراكاً سياسياً كبيراً، وأنزلت على واقع المشهد السياسي الكثير من الانفراجات المتصلة بالحريات، ولكن ما يعيب هذه الحريات أنها حريات طارئة، لم تؤطّر بتشريعات، أو قوانين؛ ما يعني الكثير من الضبابية، والغموض تجاه استمرارها في المستقبل القريب. فلا غرو إن كانت بعض الأحزاب، والقوى السياسية المعارضة تطالب في أكثر من مناسبة بضرورة التواثق على تشريعات؛ تُقنن هذه الحريات، وقوانين تنظّمها؛ ولكن لم تجد مطالبتها هذه أي قبولٍ من حزب المؤتمر الوطني. بينما تدخل الانتخابات مراحلها الأخيرة، سارعت قوى تحالف جوبا إلى تقديم مذكرة إلى هيئة الرئاسة، ولم توقع الحركة الشعبية، وكذلك المؤتمر الشعبي على تلك المذكرة، التي طالب فيها الموقعون بتأجيل الانتخابات، وقيام حكومة وفاقية انتقالية، وإلغاء المفوضية لإنشائها على أسس جديدة، وبمشاركة الأحزاب، والقوى السياسية في إعادة تشكيلها، إضافةً إلى تضمينها لشرائط أخرى؛ منها إلغاء القوانين المتصلة بالحريات لضمان حرية الانتخابات، ونزاهتها، وغير ذلك من الشرائط. كما قدم سلفاكير ميارديت النائب الأول لرئيس الجمهورية، ورئيس حكومة الجنوب، ورئيس الحركة الشعبية بمذكرة إلى هيئة الرئاسة تتعلق بخروقات، وتجاوزات في طباعة بطاقات الاقتراع. وكان من المفترض أن تنظر هيئة الرئاسة في هاتين المذكرتين يوم الخميس الماضي، ولكن تأجل الاجتماع إلى يوم الثلاثاء الماضي، ومن ثم تأجل الاجتماع إلى أجل غير مسمى. وعقب اجتماع عدد من مرشحي الرئاسة، قال السيد الصادق الصديق المهدي المرشح الرئاسي لحزب الأمة القومي- التي تشير الكثير من الدلائل أنه من أكثر المطالبين بالتأجيل، أو حتى المقاطعة، ولكنه حريص على الإجماع في هذا الصدد-؛ في مؤتمر صحافي مشترك: "إنهم سبق أن تقدموا بمذكرة إلى مفوضية الانتخابات بجملة مطالب تتعلق بتأجيل الانتخابات، ونزاهتها، ومراجعة إدارية، ومالية لأعمال المفوضية، وإعادة تشكيلها"، مضيفاً "قررنا مجتمعين إمهال المفوضية 72 ساعة للاستجابة لهذه المطالب". مشيراً إلى أنه "إذا وجدنا استجابتها ستؤدي إلى انتخابات نزيهة، وحرة- فهذا المطلوب-؛ وإلاّ سنتخذ موقفاً جماعياً، لأننا بصدد قضية تحول ديمقراطي، وتناوب سلمي على السلطة، وليس إعطاء مبررات زائفة لاستمرار التسلط". وبقليل عناء يستشفّ المراقب للشأن السياسي السوداني داخل السودان، وخارجه من هذا القول والتهديد بمقاطعة الانتخابات. ويبدو أن الإمام الصادق الصديق المهدي قد شعر، ومجموعة من قوى تحالف إعلان جوبا أن المضاغطة المستمرة على المؤتمر الوطني، والمفوضية القومية للانتخابات من أجل التأجيل حتى نوفمبر، لم تظهر أي بوادر انفراج في هذه المسألة، مما يستدعي من هذه الأحزاب، والقوى السياسية التوجه إلى نوع أقوى من المضاغطة في سبيل التأجيل، وهو التهديد ضمناً بالمقاطعة، ثم إعلان المقاطعة إذا لم تجد أساليب المضاغطة كافة؛ أُذناً صاغيةً للمطالبة بالتأجيل على الرغم من كل المسوّغات التي ذُكرت في هذا الخصوص. في رأيي الخاص أن قوى تحالف جوبا لن تفكّر في المُضي قُدماً في تنفيذ تهديدها المبطّن بمقاطعة الانتخابات، إذا لم تضمن مشاركة الحركة الشعبية في المقاطعة، لأنها تعلم علم اليقين أن مقاطعة الانتخابات من دون مشاركة الحركة الشعبية لن تُلغي الانتخابات، ولن تؤثر كثيراً على إنفاذها. ولمّا كانت مواقف الحركة الشعبية من قضية التأجيل، أو المقاطعة متذبذبةً، وفقاً لتصريحات بعض قياداتها؛ من هنا باغتها الرئيس عمر البشير المرشّح الرئاسي للمؤتمر الوطني- من حيث لا تحتسب-، وذلك بتحذيره للحركة الشعبية يوم الإثنين الماضي من أن استحقاق الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب في 6 يناير 2011 لن يجري إذا رفضت الحركة الشعبية المشاركة في الانتخابات المزمع إجراؤها في 11 – 13 إبريل الحالي. وكان الرئيس البشير واضحاً في تحذيره- بل في تهديده-؛ إذ قال في خطاب انتخابي أنه إذا رفضت الحركة الشعبية إجراء الانتخابات فسيرفض إجراء الاستفتاء. وعلل ياسر سعيد عرمان المرشح الرئاسي للحركة الشعبية تمسّك الرئيس البشير، والمؤتمر الوطني بإنفاذ الاستحقاق الانتخابي في إبريل الحالي؛ بأن المؤتمر الوطني يسعى إلى تزوير الانتخابات على مستوى الرئاسة، والولاة، وقال "إن الوطني أحكم قبضته على مفاصل العملية الانتخابية في شمال السودان"، نافياً وجود مساومة بين الشريكين (المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية) بشأن الانتخابات، والاستفتاء، مشيراً إلى أن الدستور نصّ على إمكانية تأجيل الانتخابات- حال اتفاق الشريكين-؛ لكنه قطع بعدم إرجاء الاستفتاء. وقال في لغة تحدٍّ واضحة "إن الاستفتاء قائم- شاء من شاء، وأبى من أبى". ، مؤكداً أنه "لا مجال للمؤتمر الوطني للتلاعب في الاستفتاء". أحسب أنه من الضروري أن نستصحب وسط هذا الجدل الدائر هذه الأيام، والخوف من المجهول، تصريحات الدكتور حسن عبد الله الترابي الأمين العام للمؤتمر الشعبي المتعلق باستبعاد قيام ثورة شعبية في الوقت الراهن- على غرار ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة إبريل 1985 -؛ مبرراً ذلك "أن الأوضاع في البلاد تغيرت نتيجة تنامي القبليات، والجهويات"، ولكن حديثه عن الطامّة أثار قدراً من الذعر نتيجة لتأويلات بعضهم، وخشيتهم من جعبة الشيخ، وما فيها من مفاجآت، لذلك حرصتُ على الحديث معه هاتفياً- في قراءة تفسيرية للطامّة-، فأجابني لا تكتمل هذه القراءة إلاّ إن استصحبتها بقول الله تعالى "أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى"، فقد قلت "لقد أتتهم طامّة كبرى من الجنوب، وأجبرتهم على توقيع نيفاشا، وستأتيهم طامّة أخرى ستقضي عليهم جميعاً، فذهب بعضهم في تفسير ذلك مذهباً لم أقصده، وفهماً بعيداً عما عنيت. فقد قلت أنني لا أعلم الغيب، فالغيب يعلمه الله وحده؛ ولكن قلت إن هناك طامّة ستأتي بمعنى أنه من المحتمل ألا يفوز الرئيس عمر البشير ب 50+1، ويحسم أمر الانتخاب الرئاسي من الجولة الأولى؛ فإذا انهار البشير سينهار كل شيء، أي سيحدث للمؤتمر الوطني ما حدث للاتحاد الاشتراكي. فهذه بلا أدنى ريب طامّة كبرى ستقضي عليهم جميعاً". وأضاف قائلاً "أما إذا جاء البشير رئيساً، ولكن أتت مجالس تشريعية (المجلس الوطني، والمجالس التشريعية الولائية) من غير حزبه؛ ستحدث له طامّة، بشعور الأعضاء بالاستقلالية، هذه هي الطامّة التي قدّرْتها". أخلص إلى أنه لا أحد يعلم الغيب، ولكن علينا جميعاً العمل على تفادي طامّات قد تكون كارثةً على البلاد والعباد، لذلك من الضروري معالجة إنفاذ الاستحقاق الانتخابي، أو تأجيله بحكمة من أجل إرساء دعائم التحول الديمقراطي المنشود، ومن ثمّ إرساء دعائم السلام العادل، والشامل، والتوجه إلى تنمية إنسان السودان، وازدهاره. ولنتذاكر في هذا الخصوص ما قاله الله تعالى في كتابه المبين: "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ". وقول الشاعر زهير بن أبي سُلمى: وأَعْلَمُ مَا فِي الْيَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ وَلكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ Imam Imam [[email protected]]