تنوه الصحيفة الى الخلط الذي حدث لمقال الأستاذة أم سلمة الصادق المنشور يوم الخميس الأول من أمس، وتصحيحاً لذلك تعيد الصحيفة نشر المقال الصحيح وبعنوانه الصحيح وتعتذر بشدة للكاتبة وللقراء عن هذا الخلط الذي كان بسبب خطأ فني وتعد بأن لا يتكرر.. (بعض الحل أن يكون الرأس بلا تاج..!!) من مقولة لجمال الدين الأفغاني لمن يخون دستور الأمة كتابات الأستاذ ثروت قاسم الكاتب الاسفيري ذائع الصيت، ليست للمتعة! لكن ذلك القول لا علاقة له بأسلوبه السلس في الكتابة، ولا علاقة له كذلك بخفة روح مقالاته التحليلية التي أثابر على متابعتها ولست وحدي..!! لكن ما أعنيه هو أن تلك الكتابات تتناول أوضاع وطننا السودان، وهي كوابيس ما أن تجدها مجموعة على رقعة ورقية بشيء من تحليل إلا وينفي عنك الكرى هم قد ألّم. قرأت له في الأسبوع الماضي على صفحة صحيفة «الراكوبة» الالكترونية مقالا، عن التدخل الاسرائيلي المباشر في الشأن السوداني، فقررت أن أقرأ لثروت قاسم فقط وجه النهار، حتى لا أسمح بأن يُجعل ليلي نهارا. وما يعيب تلك الكتابات العارفة اقتصارها على الصحف الاسفيرية، بينما تتناول الشأن السوداني الداخلي والسياسات العالمية ذات العلاقة خاصة الأمريكية بمتابعة واقعية وتحليلية ترشحها للحلول ضيفا كريما على الصحف السودانية الورقية لكي يحظى بتحليلها بعيد النظر غزير المعلومات، طائفة أوسع من السودانيين علها تنجح «بعد أن فشل الجميع» في لفت أنظار ديوك المسلمية المتصايحين بينما تسوى بصلتهم في المطبخ الأمريكي بما يراه العالمين، فالكلام كما يقول ثروت في احدى مقالاته قد دخل الحوش «والحوش ليس حوش بانقا». وما ذكرت أعلاه عن عدم إصابة نجاح في لفت نظر أهل الإنقاذ قول مكرور ومعاد، ندرك مداه متى ما علمنا أن حتى العقلاء المشفقين الذين «قلوبهم على الإنقاذ» مثل د. الطيب زين العابدين لم يجدوا سوى صفحات الصحف مجالاً لبث الهموم وبذل النصح على قارعة الطريق، وفي مقال للطيب في «الصحافة» بتاريخ 5 ديسمبر تحت عنوان «هل أخطأت الجماهيرية الليبية؟» يقول إن الوضع الداخلي المنذر بمزيد من المشكلات بعد الانفصال ليس الى خروج منه من سبيل الا عبر ثلاثة خيارات: أحدها تنحي الرئيس فداء للوطن، وإن كنت اعتقد أن الخيارات المذكورة في ما كتب د. الطيب تحقق الأهداف المرجوة منها بفاعلية، فقط إذا تم التعامل معها حزمة واحدة ينبغي تجرعها جملة، ولا ينبغي لأحد بنودها أن يسقط بقيتها. ونظرا لأن مقال أ. ثروت قاسم الذي بدأت به، ما أكتب اليوم، يبدو حقيقيا بصورة مزعجة، رأيت نقله باختصار أرجو ألا يخل بمعانيه، لفائدة طائفة أوسع من السودانيين. المقال يتناول اعتداءات قامت بها القوات المسلحة السودانية ثلاث مرات متوالية: في يوم الجمعة 19 نوفمبر 2010م، شنت طائرة أنتينوف تابعة للقوات المسلحة السودانية، غارة جوية على قاعدة عسكرية من قواعد جيش الحركة الشعبية في منطقة كير اديم ، شمال بحر الغزال ! الأمر الذي أسفر عن مقتل جنديين للجيش الشعبي ! ونزوح حوالي 2500 مواطن من قراهم الحدودية ! وأعادت الكرة طائرة هيلكوبتر حربية يوم السبت 20 نوفمبر 2010م. ومساء الأحد 21 نوفمبر 2010م، قصفت طائرتا أنتينوف وهيلكوبتر تتبعان للقوات المسلحة السودانية نفس القاعدة العسكرية للمرة الثالثة! مما جعل الرئيس سلفا كير يستصرخ الولاياتالمتحدة طالبا تزويده بسلاح مضاد للطيران، وتحديدا طالب مده بصواريخ ستنغر الدفاعية، وعطف أمريكا على حكومة الجنوب ظاهر لا تخفيه، كما أن سخطها على حكومة الشمال وحكامها من المؤتمروطنجية بادٍ لا تواريه، فاستمهله الرئيس الأمريكي أوباما حتى صبيحة يوم الاستفتاء في التاسع من يناير 2010م لتلبية طلبه «ومثله معه» لضمان هدوء الأوضاع بما يسمح بإنجاز الاستفتاء، خاصة أن لذلك صلة بارضاء قطاع واسع من الناخبين الأمريكيين عن طريق القس فرانكلين جراهام وما يمثله من قناعات تتصل بعودة المسيح التي ترتبط عنده بقيام دولة الجنوب وهطرقات مماثلة يؤمن بها اليمين المسيحي. ثم تناول الكاتب وصفا تعريفيا للصاروخ ستنغر وكفاءة تلك الصواريخ، وذكر لبعض الحروب التي استخدمت فيها والتدريب اللازم لاستخدامها. وعلى إثر ذلك التلكؤ الأمريكي أسرع مستشار الرئيس سلفا الخاص «روجر ونتر» بتحويل العرض السابق للدولة العبرية التي ينتظر القائمون عليها بتربص لفرص مماثلة، بل يصنعونها إن غيبها العقلاء في عوالمنا على ندرتهم وبعدهم عن مراكز القرار، فأسرعوا يستجيبون لطلبات سلفا، كما يصور الحال في جنات الخلد تتمنى فتجاب بشبيك لبيك ملاكك بين يديك، لكن الفرق في الدوافع وفي طبائع المستجيبين. فبينما يُستجاب في الجنة للمؤمنين مكافأة لهم على صالح الأعمال، فالاستجابة هنا من إبليس يريد أن يشعل الفتن ويوقظها. وهكذا تعهد الاسرائيليون بتدريب وتزويد حكومة الجنوب بما تطلب ويزيد، فما أن يصبح صباح يوم 9 يناير اليوم المحدد لإعلان انفصال دولة الجنوب، إلا وتكون حكومته في أتم جاهزية لردع تفلتات وتعديات المؤتمر الوطني الهستيرية، بل ضمن الاتفاق بندا بموجبه يتم نشر الصواريخ ستنغر في كل البؤر الملتهبة ومنها دارفور. وقد ذكرنا أن هذا الرصد الذي «حمانا النوم» يتناول بتحليل واعٍ نتائج متوقعة لأفعال غاب عنها الحس الوطني وغاب عنها الوازع الأخلاقي، مما يقوم به أرباب المؤتمر الوطني الذين خبرناهم وجربنا خطوط سير فعالهم ومآلاتها. ومن يرصد بتتبع الكيفية التي حشر بها الإنقاذيون أنوفهم في أزمات السودان يصيبه دوار. ودعنا عزيزي القارئ نتتبع أزمتي الجنوب ودارفور مثلا، لنرى كيف تم تصعيدهما في توازٍ مع الحلول، بحيث لا يلتقي الحل مع المشكلة أبدا كما في نظريات الهندسة «لا يتلاقى المتوازيان» حتى اجتمعت الأزمتان في مصب واحد أشكل على الدولة السودانية وكسا صبحها بالسواد. في 18 سبتمبر من عام 1989م كان مقدرا ومقررا أن تناقش المسائل السودانية جملة واحدة في مؤتمر دستوري جامع يهدف الى رسم خارطة طريق للسودان شاملة لكل الجوانب لكي يشرق السودان من جديد، وقد كان على سدة الحكم ديمقراطية واعية وضعت البلاد على عتبة المسار الصحيح، وفهمت بل استطاعت أن تنقل ما استوعبته للجميع: أن الحوار هو السبيل الوحيد لإيجاد الحلول، وأن قضية الجنوب لا يمكن معاجتها على أساس أمني، إذ أنها بدأت واستمرت حركة مطلبية لم تطلب تقرير المصير حتى ذلك الحين، وكان المؤتمر الدستوري المزمع، سوداني الهوى سوداني الحلول سوداني الحضور سوداني التوجهات. ولكن لأن الرياح غالباً ما تأتي بغير ما اشتهت السفن، أتى المنقذون في ليلة غبراء نكدة وتولوا زمام الأمور عنوة قبل ثلاثة أشهر فقط من الموعد المضروب للمؤتمر المذكور، وكان من بين ما ادعوه إرادتهم تطبيق شرع الله وحسم الأمر في حرب الجنوب وايقاف قرنق من التقدم لاحتلال الخرطوم. فطفقوا يجيشون المُغرر بهم ويعلنون الجهاد على الجنوب بحسبانه دارا للكفر، وبعد أن دانت لهم البلاد قهرا، اتضح للكل ما عدا الفئة الحاكمة أن ما سلكوه من الطرق سينتهي بالسودان «وهم على رأسه» حتما إلى هاوية ما لها من قرار، فكان أن جنحوا للسلم في نيفاشا تقية وتظاهرا بينما استبطنوا الإنحناء فقط لتمرير العاصفة، ثم إعمال حبائلهم الكيدية التي تبدأ ولا تنتهي، وهذا كارهم الذي حذقوه وبرعوا فيه، كما اعترف المحبوب وغيره، فأدى العبث في ملف الجنوب إلى ما نحن فيه اليوم من تحديد ليوم تقرير المصير، وإلى ترجيح للانفصال من قبل المستفتين. ولهم العذر! لأن من بيده قلم لن يقرر على نفسه الشقاء بالبقاء في دولة للمؤتمر الوطني أبدا. ومآل هذا الملف يرسمه ما أوردت من تلخيص لمقال ثروت قاسم عن تدشين دخول اسرائيل في التعقيدات السودانية. أما دارفور فتتبعها يقتل الراصد قتلا. ذلك أن المشكلة إنقاذية الصنع حصريا ومنذ البداية، وكما ذكرت في مقال سابق أن الإنقاذ إنما أتت إلى سدة الحكم عنوةً بنية خلخلة النسيج الاجتماعي لدارفور التي منعت عن مرشحي الجبهة الإسلامية أصواتها في انتخابات 1986م، وقد كانوا يأملون إحراز ولو بعض نجاح فيها بعد أن بذلوا ضروب البذل الذي يجيدون من إغواء بالمال وبالجاه. فكانت النتيجة المحبِطة، إضافة لعدم وثوقهم في الاعتماد فقط على أصوات الخريجين، فهي على قلتها «لا تؤهل لتكوين حكومة» يمكن تغيير شروطها راجع مقال «الإنقاذ خلقت من عود أعوج» ودليلنا دارفور! مما يعني أن الديمقراطية لن تجدي لتنفيذ أغراض تسنمهم الحكم. فكان انقلابهم في يونيو89م على الديمقراطية بغرض تغيير نسيج دارفور تجييرا لصالح تحقيق الفوز في ممارسة ديمقراطية لاحقة، وهداتهم يدركون أن لا مناص من العودة إلى الديمقراطية، لغة للتفاهم في عالم اليوم. وكان هذا هو التخطيط الشيطاني، لكن الإنسان مخلوق كرمه ربه فخيره بين الإيمان والكفر، ولا يمكن التحكم في مزاجه ولا معرفة طرائق تفكيره، ولأن سياسات الإنقاذ طالت هذا الإنسان، ولم يكن تطبيقها في معمل محكوم الأجواء ومضبوط، فقد خرج الأمر عن يد الإنقاذ بصورة أذهلت أهلها! اتخذت السياسات الاضطرارية المتصاعدة في دارفور منذ 2003م، وبدأت الاحتجاجات المسلحة تُسمع الإنقاذيين صوتها، مثلما طلبوا بلسان الرئيس ذات مرة أنهم أتوا بالقوة فعلى من يريد محاورتهم أن يأتيهم من بابهم الذي يعرفون! وفي ملف دارفور عمل أهل الانقاذ بوسائلهم القديمة وأخذوا في تطبيق نهج السياسة البريطانية القديمة الجديدة «فرق تسد»، وما أضافوه لهذا الاجتهاد البريطاني من «كشكش تسد». كانت أبوجا مولودا شرعيا لسياساتهم تلك، ولذلك فقد ولدت خداج.. صحيح تمكنت من ضم أحد المحاربين إلى جبهة الانقاذ إلى حين «فصيل مني أركو مناوي» لكنها لم تفلح في صنع السلام كما اعترف أحد الإنقاذيين قبل أيام تبريرا لعدم تنفيذهم بنود ابوجا إلا بنسبة 15% فقط، ثم لم يستفيدوا حتى من أبوجا رغم عيوبها، فقد كان يمكن عن طريق إنجازها كاملة، إغراء آخرين مثلا بالدخول في كمائن السلام الإنقاذية، فشهدنا ما صار مني أركو مناوي يصرح به منذ زمن في المنابر العامة من أقوال مثل «أن حتى مساعد الحلة أكثر أهمية منه»، والحسرة غير خافية في لهجة مثل تلك التصريحات المتألمة. واليوم نرى أن احتماء مني بحكومة الجنوب إنما هو نهاية متوقعة لما فعلته الإنقاذ من نقض لغزلها في أبوجا بيدها، ويدهشنا مقدار قصر النظر الذي يميز السياسات الإنقاذية ونحن نطالع في صحف الإثنين 6 ديسمبر 2010م، أن أوامر رئاسية صدرت لإخلاء منزل مناوي في الخرطوم، منذرة بأن يتم ذلك في فترة وجيزة. والمنزل أصلا خالٍ، فلا يعقل لمن ذاق مس الإنقاذ أن يقدم على ما أقدم عليه دون ترتيب لأوضاعه، خاصة أن السيد مني كان قد صرح بأن إقامته في القصر الرئاسي زودته بالخبرات في طرائق تفكير الإنقاذيين..!! إذن فالخطوة حتى لا تفش غبينة ولكنها قد تخرب مدينة، بمزيد من إيغار الصدور وتوفير التبريرات المشروعة لشن الحروب الدفاعية..!! ونحن إذ نتأمل مثل كتابات الأستاذ ثروت قاسم وغيره ونطلع على مثل تلك الأخبار المدهشة على صفحات الصحف السيارة، لا نملك إلا أن نتساءل بإلحاح: ترى من يشير على أهل الإنقاذ بسياساتهم؟ ومن يصنعها؟ومن يسهر على تنفيذها؟....الخ قائمة لا تنتهي من تساؤلات. وهل نستغرب إن نما إلى علمنا أن ما يصنعه الإنقاذيون إنما هو تنفيذ لسياسات أمريكية صهيونية يتم إعدادها وإنضاجها في مطابخ أمريكية واسرائيلية؟لن نخرص في ما لا علم لنا به، ولكننا نزعم أن ما ترتكبه الإنقاذ من حماقات يؤدي شاءت هي أم أبت، إلى تهيئة المسرح، كما وافق شن طبقة، لتنفيذ أجندة الأمريكان والصهاينة. ليس من أغراض هذا المقال الترويج لنظريات المؤامرة، ولا نريد اتخاذ الآخرين شماعة لإخفاقاتنا، فالمؤامرات وإن وجدت لا تؤتي أكلها إلا حينما تصادف ظروفا مواتية، ونحن نزعم أن المسرح السوداني قد تمت تهيئته بالكامل لتقبل الأجندة الأجنبية، ولم يبق إلا أن يلطف الله، وذلك ممكن ومأمول في كل حال، ففينا قوم مؤمنون ومستغفرون. وسلمتم.