بدأ يوم الاحد الماضي مؤتمر الرواية العربية بالقاهرة وتتواصل جلساته حتى يوم الاربعاء وهنا ملخص لبعض اوراقه. حتى عهد قريب، كانت مسألة كتابة رواية، ونشرها، والعثور لها بعد ذلك على قارئ نشط يحاورها بصبر، ويغوص فيها كما فعل الكاتب، أمرًا في غاية الصعوبة، لم يكُن ثمة كُتَّاب رواية كثيرون، ولا وسائل نشر، إلاَّ تلك المطابع الورقية مطموسة الحبر، وعدد محدود من دور النشر في وطننا العربي، يحتفي بأسماء معروفة، ولامعة، ولا يَوَدُّ أن يضيف إليها كاتبًا جديدًا مهما كانت موهبته. وكان على الذي ابتُلي بمرض الكتابة، أن يحمل نصه المكتوب بخط اليد، يدور به من جهة رافضة إلى جهة رافضة، وغالبًا ما ينتهي به الأمر، إلى نسيانه تمامًا، أو نسخه في إحدى المكتبات، وتوزيعه على عدد محدود من الأصدقاء ربما هم الذين شجَّعوه أصلاً على الكتابة. وإن صادف أن عثر الكاتب على دار نشر ترعى نصَّه، أو جهة داعمة تموِّل أمر نشره، فذلك حدث كبير بلا شكّ، يستوجب الاحتفاء. على صعيد آخر، كانت الصفحات والملاحق الثقافية في الصحف -على قِلَّتها- تحتفي بكل ما يكتب، وأحيانًا تنشر أخبارًا عن أعمال روائيَّة تصدر قريبًا، بينما تكون تلك الأعمال لا تزال مجرَّد ثرثرة على ألسنة كُتَّابها، أو مخطوطات لم تجد طريقها إلى النشر بعدُ. حين بدأت كتابة روايتي الأولى المسماة »كرمكول«، وكنت طالبًا في كلية الطب، هنا في مصر، أكتب الشعر، وأجلس للثرثرة في المقاهي كما يفعل الكُتَّاب، وتحدثت بالطبع عنها، وأنها ستكون روايتي الأولى، أن نشرت إحدى الصحف خبر صدورها عن الهيئة العامَّة للكتاب، بخطوط عريضة على خلفية سوداء، وحين انتهيت منها بعضها ببعض في تلك السِّكَّة، ويقف المتلقِّي، يتلفت في ذعر، وسط ذلك النزيف الطباعي، وأسهل ما يمكن أن يفعله، هو أن يفر بلا رجعة. ما أدَّى إلى ذلك الهوس بكتابة الرواية، أعزوه إلى عدَّة أسباب: أولاً: الفراغ القاتل الذي تعيشه الأجيال الجديدة، التي قد تكون تعبت في التعليم، ولم تحصل على وظيفة، ومن ثَمَّ لا بد من ملء ذلك الفراغ، ولو بكتابة رواية. ثانيًا: انتشار دُور النشر بطريقة مرعبة، وبلا أي خلفية ثقافية، تجعل منها دورًا تميز بين الجيِّد وغير الجيِّد، وأنها في النهاية، مؤسَّسات ربحية لا يهمُّها من الكِتاب إلاَّ عائده، الذي غالبًا ما يتكفل به الكاتب الجديد. وأدَّى ذلك إلى انتشار ما أسمِّيه »ثقافة الألف دولار«، التي هي المبلغ المطلوب لأن يضعه الكاتب الجديد في يد الناشر، ثم يحصل على كتاب يحمل اسمه. وعن طريق تلك الدولارات الألف التي لم تعُد مبلغًا عصيًّا، يصعب جمعه، ولا كنزًا يستوجب البكاء عليه، لو ضاع تحت أي ظرف، دخلت آلاف الكتابات الغريبة، إلى تصنيف الرواية، وصُنِّفَ كُتَّابها روائيّين، وقد سعيت لقراءة عدد من تلك التجارِب، ولم أحسّ بها تجارِب موهوبة، كما استمعت في حوارات خاصَّة، لعدد مِمَّن دخلوا عبر بوابة الدولارات الألف، واكتشفت أن فيهم كُتَّابًا، لم يقرؤوا كتابًا من قبل، وأقول إن ذلك لا ينطبق على الكل، لأن في كل جيل يأتي، لا بد من موهوبين، يمكن أن يضيعوا في تلك السِّكَّة المزدحمة. ثالثًا: مسألة النشر الإلكتروني، المواقع الغزيرة التي تكتسي ثوب الثقافة، وتنشر كل شيء بلا رقابة ولا تدقيق، ونشوء المدونات، والمواقع الاجتماعيّة، مثل »فيسبوك«، و»تويتر«، و»نت لوج«، وتلك بوابات ما أسهل الدخول عبرها، وما أسهل أن يصبح كاتب خواطر مبتدئ، في قرية »حجر العسل« في شرق السودان، صديقًا افتراضيًّا، حتى لأمبرتو إيكو، أو كارل رويس زافون، أو خالد حسيني، وكنا في الماضي نطارد المقاهي، والندوات الثقافية، من أجل أن نحصل على كلمة واحدة من كاتب مثل صنع الله إبراهيم أو عبد الحكيم قاسم. رأيي أن الرواية لا تعاني الآن من أزمة نشر، بوجود كل تلك الفرص المتاحة للموهوبين وغير الموهوبين، لكنها تعاني في الأصل من مشكلة كتابة. من الذي يمكن أن يطلق عليه روائيّ؟ ومن الذي لا يُطلَق عليه؟ مَن الذي من المفترض أن يكتب، ومَن الذي من المفترض أن يصنع شيئًا آخر غير الكتابة؟ وإذا عدنا إلى مسألة التلقِّي، نجد أن المشكلة أعمق، فلن يعثر الكاتب الجيِّد على متلقٍّ جيد، ما دام القُرَّاء يشترون الكتب، يحاولون قراءتها، ولا يستطيعون، ومن ثَمَّ فرار جديد لقُرَّاء الرواية، كما فَرَّ قُرَّاء الشعر من قبل. بالطبع لا يوجد حلٌّ لكل تلك المعضلات التي ذكرتها، وما أقوله هو أمنية أن لا يموت فنُّ الرواية باكرًا في وطننا العربي، وأن يظل هذا الفن السردي الجميل متماسكًا، يذكِّرنا بكُتَّابنا العظماء دائمًا. في النهاية لا أريد أن أدَّعي أنني كاتب ناجح أو قدَّمت نتاجًا ذا جدوى. لي تجارِب راضٍ عنها بشدَّة، وتجارِب أعتبرها من تلك التي أسهمت في تعقيد الكتابة، ولم تجذب قُرَّاءً كثيرين، يتفهمونها، أو يتعاطفون معها.