يظل صباح الإثنين 19 ديسمبر 1955م يوماً مهيباً فى تاريخ السودان، ففى ذاك اليوم الذى تحل اليوم ذكراه تمّ إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان.. وها نحن فى هذى الأيام الكالحات نتأهب لآخر احتفال بالاستقلال تحت ظل الوطن الواحد الموحد. أىُّ حزن غامر وأىُّ كآبة تقبض النفس ونحن نرى الوطن الذى أحببنا تُقطّع أوصاله فى لحظة هوان وضعة ما كنا نأمل أن نكون شهوداً عليها. فى تلك الجلسة التاريخية نذكر أبا الوطنية الزعيم الخالد اسماعيل الأزهرى وكلماته المضيئة «وحدة السودان دونها خرط القتاد» ... يا لهواننا سيدى الرئيس، فالوطن الذى بنيتموه بعزم الرجال والاستقلال الذى تحقق بجسارة الأبطال، أضحى اليوم «بعض وطن» تنتاشه الذئاب وتعوى فيه الثعالب وينعق فى جنباته البوم وتحلق فى سماواته بغاث الطير. فى تلك الجلسة التاريخية تحدث السيد اسماعيل الأزهرى رئيس الوزراء والسيد محمد أحمد محجوب زعيم المعارضة والسيد مبارك زروق زعيم الأغلبية، وتحدث ما بين مُقترح ومُثنى السادة ميرغنى حسين زاكى الدين وبنجامين لوكى وعبد الرحمن محمد ابراهيم دبكة ومشاور جمعة سهل وحسن جبريل سليمان وجوشوا ملوال ومحيي الدين الحاج محمد وحماد أبو سدر وحسن الطاهر زروق.. فالنتأمل هذى الأسماء المضيئة التى جسدت وحدة الوطن رغم تباين الأعراق والقبائل والأحزاب، ولنشرب حتى الثمالة من أدمعنا. ماذا نقول لك سيدى الرئيس؟ وماذا نقول لأصحابك ورفاق دربك من أبطال الحركة الوطنية على اختلاف أحزابهم وتوجهاتهم؟ أنقول إننا أطفأنا جذوة الشمس ومشينا بنعالنا فوق تلك الأمجاد؟ أم ترانا نشكو مما فعل الأغرار والأقزام بذاك الوطن الرحيب الممتد؟ ما عاد الأسى يجدي ولا العبرات تسعف.. فها هو الجنوب يتأهب للرحيل وأبيي تشحذ بنادقها ودارفور يعلو ضرامها وأهل الشرق فى فقر وجوع وظمأ وسل، وأهل الشمال يحرثون بأظفارهم تراب الصحارى كى يظفروا بجرام أصفر، وعاصمة البلاد تهوى فيها السياط على رقاب وأجساد النساء دون سند شرعى أو تبصر اجتماعى.. والناس كل الناس فى قهر وفقر ومعاناة. ما ترانا نقول لك سيدي الرئيس فى يومك المجيد هذا.. وأنوفنا فى الرغام والوطن بعض حطام؟ أنشكو هواننا ونمضغ أسانا؟ أم نحزم أمرنا ونأخذ بثأر الوطن؟ أم ترانا نعتذر لك ولأصحابك عما زعمه الزاعمون وهم يرددون أن وزر انفصال الجنوب معلّق على كل الرقاب منذ عهدكم.. عهد الاستقلال وما قبله وما تلاه، فالشينة كما تعلم منكورة.. لا عليك سيدى فكل عاقل يدرك أن الجنوب ما أضاعه إلا أولئك الذين غيبوا الديمقراطية وخاضوا الحرب تحت رايات دينية. سيدى «الأزهرى إسماعين».. ماذا ترانا نقول، ما من قول يسعف .. هو الحزن والألم ولا شىء سواه.