اليوم مضى الجنوب الى شأنه مخلفاً الحسرة والدموع فى أفئدة معظم أبناء هذا الشعب الذين لا يدمى قلوبهم الانفصال فحسب، ولكن يحزنهم فوق هذا أن الوطن ما عاد ذاك الوطن الذى به يتباهون وبصيانة ترابه يقسمون. الكل فى مثل هذا اليوم في عينه دمعة وفي قلبه لوعة وحزن وموجوع ومكلوم ومنقبض النفس، اللهم إلا من قلة تهز و «تعرض» وتنحر الذبائح بعد أن نحرت الوطن ومضت تسوقه عبر الخطاب العنصرى والتعصب المذهبى الى هذا اليوم الكئيب. من مثل هذه الاجواء المتخمة بالإحباط والهوان الوطنى، تذكرت تلك القصة المأساوية التى تعود الى صباح الاول من يناير 1956م، والبلاد على خلاف يومنا هذا، ترفل فى بهجة غامرة احتفاءً بالتحرر من قبضة المستعمر وتتأهب بكامل ترابها الشاسع الممتد لمواجهة تحديات البناء الوطنى. وكان الراحل علي الشيخ البشير من جيل الخريجين الذين انضووا الى ملحمة النضال الوطنى عبر مؤتمر الخريجين وما تلاه من بزوغ الاحزاب الوطنية. وكان من القيادات الشابة فى الحزب الوطنى الاتحادى، وهو الحزب الذى اكتسح أول انتخابات برلمانية مما مكنه من تشكيل الحكومة الوطنية الاولى التى أنجزت الجلاء والسودنة والاستقلال، وفوق هذا كان الرجل كاتباً متميزاً ومؤمناً مؤملاً فى وحدة وادى النيل بين السودان ومصر، بحيث لم يعد فى قلبه وعقله متسع لأى اجتهاد سياسى يناهض مشروع الوحدة، خصوصاً أنها كانت الشعار المعتمد الذى أوصل حزبه الى مقاعد السلطة الوطنية الوليدة. بدأت بوادر الحزن الغامر والاكتئاب عنده حين أحس بانقلاب حزبه عن شعار الوحدة وانجرافه فى التيار الاستقلالى، وفاض به الحزن ليبلغ ذروته ومنتهاه صباح يوم الاستقلال، وهو يرى آماله فى الوحدة تذروها الرياح العاصفة من حوله، فما كان منه إلا أن أدار ظهره للاحتفال الحاشد الذى كان يخاطبه رئيس الوزراء اسماعيل الازهرى فى ميدان وزارة المالية، ومضى صوب النيل بأقدام ثابتة وقلب محزون وأغرق نفسه فى لجة مياهه تاركا من ورائه ورقة صغيرة قال فيها انه لا يستطيع ان يعيش الحياة ليرى وادي النيل ينقسم الى دولتين لا رابط بينهما. وبعد أن استرجعت هذه القصة المأساوية التى مضى عليها أكثر من نصف قرن، وجدت نفسى اتساءل: إن كان الراحل علي الشيخ البشير قد زهد فى الدنيا وارتحل عنها بكامل إرادته، ووهب روحه قرباناً لانهيار حلم سياسى يطمح فى أن يراه يتنزل على ارض الواقع .. مجرد حلم يحتمل التحقيق بقدر ما يحتمل التبديد، ترى كيف يكون حالنا اليوم ونحن الذين عشنا واقع الوطن الواحد المترامى الاطراف، وجبنا أصقاعه المختلفة من حلفا الى نمولى، وحفظنا تضاريسه وشاهدنا الكثير من مدنه وقراه، وحفظنا خرائطه على ظهر قلب، وظللنا نردده انشودة عفو الخاطر، وتصادقنا مع أجيال متلاحقة من سياسييه من الجنوب والشمال، وشهدنا كافة معاركه بكل ما فيها من انتصارت وثورات .. وانكسارات وانقلابات .. كتبنا عن أبرز محطاته السياسية ورصدنا طفراته الاجتماعية واحتفينا بأدبائه ومبدعيه، وتمايلنا مع أنغام مطربيه .. كيف يكون حالنا ونحن اليوم نقف شهوداً على انفراط العقد النضيد وتداعى وتساقط حباته فى التراب؟ هل نتوارى عن الدنيا ونقتل أنفسنا كما فعل الرجل، أم نكتفى بالحزن الغامر، وقد كنا نأمل أن نموت قبل أن نرى بأعيننا موت ملامح الوطن الذى أحببنا؟! ومما يزيد من وطأة الحزن فى نفوسنا فى هذا اليوم أننا بتنا على يقين أنه ليس آخر الاحزان، فالشواهد السياسية الماثلة امام أعيننا تقول إن الجنوب ليس وحده الذى يمضى اليوم ويتركنا، فإخفاقنا المتراكم وارتباكنا السياسى المزمن ينذر بأن التشظى واهتراء النسيج الوطنى يعدنا بأيام قادمة موحشة كقطع الليل .. أيام تنال مما تبقى من تراب وطننا المجيد. لقد أصبح حالنا وحال الوطن كحال المريض الذى بُترت منه ساق أو رجل ولكن المرض مازال ينهش فى بقايا جسده العليل ويسعى ليلتهم بقية الاطراف .. طرفاً بعد طرف!! لقد كتبنا مراراً وتكراراً عن إخفاق وفشل كافة النخب الحاكمة التى توالت على البلاد بما فيها الانقاذ فى إدراك متطلبات الوطن وفى النهوض بآماله وعلاج أوجاعه. فما من نظام عسكرياً أو مدنياً سعى لترسيخ الهوية الوطنية لهذه الامة، مستوعباً لتنوعها العرقى والمذهبى والجهوى والبيئى الذى يعد مصدر قوة وثراء فى كثير من الامم إلا عندنا، إذ أصبح مصدر فرقة واحتراب . وجعلنا كل همنا إحكام القبضة السياسية على المركز غير عابئين بالتطلعات المشروعة للأطراف والهوامش. فما من حزب يملك لجاناً حقيقية تغطى كافة أرجاء الوطن وتتحسس نبض تلك الهوامش ، وما من نظام عسكرى إلا وتخير الحلول الامنية القمعية غير عابئ بتململ الاطراف وبتطلعاتها المشروعة . وها هو جزء عزيز من الوطن يمضى اليوم ليشكل دولته المستقلة، وهو أمر استمات في تجنبه المخلصون والحريصون على وحدة السودان بالمهج والأرواح.. ماذا ترانا نقول لكل هؤلاء في مثل هذا اليوم الذى أصبح فيه الوطن وطنين والدولة دولتين والشعب شعبين؟ ماذا نقول للطلائع الاولى من الاداريين الذين آمنوا بوحدة هذا الوطن وذهبوا افواجاً افواجاً قبيل الاستقلال وعلى مشارفه الى جنوب الوطن ليوطدوا أول نواة ادارية وطنية للحكم في الجنوب، وكلهم عزم صادق ان يلحق ذاك الجزء العزيز من الوطن بركب التنمية والمدنية. وعملوا في الوحدات الادارية الاولى في محطات نائية وقصية، لا يؤنس فيها من وحشتهم ووحشة اطفالهم وزوجاتهم إلا ذاك الايمان الغامر بوحدة الوطن ووحدة ترابه واهله. الاطباء منهم وكانوا من الرعيل الاول من خريجي مدرسة كتشنر الطبية انهمكوا في علاج الاوبئة مثل عمى الجور والدودة الغينية ومرض النوم وغيرها من الامراض المستوطنة، وقاموا بافتتاح المستشفيات والوحدات العلاجية في بور وفي نمولي ومريدي وغيرها من مدن الجنوب. والمعلمون راحوا يضعون اللبنات الاولى للتعليم ويبسّطون المناهج ويعدلونها حتى تتواءم مع ذهنية ابن الجنوب لتنهض بمستواه التعليمي، والى جانب هؤلاء عمل الرعيل الاول من الزراعيين والبياطرة في توفير الارشاد الزراعي والتوعية البيطرية. وكل هؤلاء كانوا أول من دفع فواتير التمرد الباهظة، فعشية اندلاعه في 55 قُتل جزء كبير من هذا النفر الكريم وحصدت الحراب والسهام أكباد اطفالهم وسُبيت زوجاتهم وتشردت عوائلهم في الاحراش.. فماذا ترانا نقول لتلك الارواح البريئة التي مهرت بدمها ودماء اطفالها وحدة الوطن؟ ماذا نقول لارتال الشهداء من أبناء القوات المسلحة والشرطة وغيرها من القوات النظامية الذين ظلت دماؤهم تنزف في أحراش الجنوب على مدار اكثر من نصف قرن، وهم يرابطون في غابات الجنوب الاستوائية وفي النقاط الحدودية النائية.. ينامون بعين واحدة بينما العين الأخرى تتوجس من لغم يُزرع او كمين يُنصب او طلقة غادرة تُطلق ؟! شباب كريم في وهج شبابهم وعنفوانهم سقناهم في مواكب الى الموت منذ الخمسينيات، ومنهم من لم يهنأ بزوجة او زواج، ومنهم من ترك اطفالاً في بداية العمر وآثر ان يجود فداءً وقرباناً لوحدة هذا الوطن.. ما كان هؤلاء قتلة او مرتزقة مأجورين، ولكنهم أبناء هذا الوطن الواحد والشعب الواحد الذين قاتلوا ببسالة وايمان، لا للوحدة والسلام فحسب، وانما لحماية اهلهم في الجنوب من كيد الانفصال وحرائقه التي التهمت البشر والسكان والحرث والضرع على حد سواء. ماذا ترانا نقول لاولئك البواسل من الضباط والجنود ... وماذا نقول لاسرهم التي رحلوا وتركوها ؟ واولئك التجار الذين خرجوا من شمال الوطن وغربه وشرقه وقصدوا الجنوب سعياً وراء الرزق والعيش الكريم في وطن كانوا يحسبونه واحداً، فوطدوا دعائم الوحدة الوطنية وصاهروا اهلهم في الجنوب، وانجبوا من الاطفال من باتوا اليوم آباءً كباراً وتمازجت في اوردتهم وشرايينهم دماء اهل الشمال مع اهل الجنوب.. اولئك النفر الكريم من التجار الذين نقلوا البضائع واساسيات الحياة من السلع الى اهلهم في الجنوب وظلوا اوفياء بتجارتهم واموالهم لقضية الوحدة، كانوا ايضاً أول من افترستهم وافترست اسرهم واموالهم وتجارتهم تلك الحرب بضرام نيرانها المتقدة لعقود طوال... فماذا نقول لهم اليوم والانفصال يقف على ابواب الوطن الواحد الذي آمنوا به؟ ماذا نقول لقوافل الشهداء من الشباب والاطفال الذين تم تفويجهم الى الجنوب في بواكير عهد الانقاذ الاول وهم يضربون على الارض باقدامهم الصغيرة في عزم وثبات، وتتوق أفئدتهم الى أعالي الجنان والى رائحة المسك من قبور الشهداء ؟ أولئك الذين تركوا مقاعد الدراسة في ثانوياتهم وجامعاتهم وتركوا اقلامهم وكتبهم واشواقهم والاهل والاحبة، وراحوا يقاتلون في بسالة كما الأسود ذوداً عن الوطن ووحدة ترابه.. ماذا نقول لهم بعد ان ودعوا الحياة «لا حريرة ولا ضريرة» ولا خضاب حنن أيديهم، دفعتهم الاقدار اللئيمة عرسانا الى عالم الخلود ؟! وتلك الشريحة الواسعة العريضة من ابناء الوطن الذين تمازجت في اجسادهم دماء ابناء الشمال مع الجنوب، فباتوا ينظرون بعين الى ابناء خؤولتهم في الجنوب وبالعين الاخرى الى ابناء عمومتهم في الشمال، وهم حائرون ومتوجسون من مآلات مستقبلهم ومصير انتمائهم..يتساءلون اين تقذف بهم الجغرافيا السياسية المرتقبة لدولتى الانفصال ؟.. الى الشمال ام الى الجنوب، ام يصبحون«بدون هوية» ... ماذا نقول لهم ؟ وماذا نقول لأهل الجنوب أنفسهم الذين أشقتهم الحروب الطويلة أكثر من غيرهم، ففقدوا أرواح اطفالهم وأسرهم ومواردهم وأسباب عيشهم في حرب عبثية جعلتهم يهيمون على أوجههم طلباً للهجرة في دول الجوار، وطلباً للنزوج في شمال الوطن، وهم يتساءلون فيم الاقتتال وفيم الاحتراب؟ إذ ما كسبوا من الحرب شيئاً ولن يكسبهم الانفصال سوى المزيد من العنف والاقتتال . ماذا نقول لاخواننا الجنوبيين الذين نادوا بالفيدرالية نظاما للحكم منذ قرن من الزمان، وقد اتهمناهم يومها بالخيانة في حين اننا سمحنا لغيرهم من الشماليين باقامة المنابر التي تدعو علنا الى الانفصال ولا حسيب لهم ولا رقيب. ماذا نقول لكل هؤلاء فى مثل هذا اليوم... ليس ثمة كلمات تسعف أمام سطوة الحزن الذى تمدد فى دواخلنا ... لا شىء سوى الاسى والألم !!