صدرت عن دار عزة للنشر والتوزيع مذكرات بالعنوان اعلاه استكمالا لمذكرات سابقة بعنوان (أيام زمان) ويحمد للواء ركن مزمل غندور حرصه على كتابة مذكراته وهو امر بالغ ا لاهمية فى بلادنا حيث تتحرك الرمال وتتغير الاحوال بسرعة بحيث لاتجد الاجيال الجديدة معها توثيقا لفترات مهمة من تاريخ السودان .وتأتى اهمية ماكتبه مزمل غندور من مكانة الرجل كأحد الضباط الاوائل الذين اسهموا فى مجريات الامور فى فترة مابعد الاستقلال ، كما ان مذكراته اشتملت على رؤاه فى مجمل ما يدور فى الساحة ومشاركته فى كثير من احداثها. وتغطى مذكراته فترة الحكم المايوى ثم الديموقراطية الثالثة وحتى 30يونيو 89 وربما كانت هذه من المذكرات النادرة التى تناولت هذه الفترة. السودان هو احد اقطار العالم الثالث التى عانت كثيرا من عدم الاستقرار نتيجة للصراع على السلطة والاستقطاب الجهوى والاثنى وعدم تبلور مفهوم القومية السودانية والشعور بالانتماء، ويلاحظ ان الانتماء للمؤسسة العسكرية والنظامية من اهم ادوات الاندماج القومى ان لم يكن اهمها على الاطلاق. سعادتو مزمل كان من القلائل الذين ولجوا ابواب الكلية الحربية وهو يحمل الدرجة الاولى من شهادة كامبريدج ثم توج ذلك بان كان اول دفعته وما لبث ان حصل على درجة فى القانون وبذلك صار الاكثر تأهيلا بين انداده ولكن الامور سارت على غير ما يشتهى وقد قيل بحق (انها لا تعطى حريفا ) فبينما هو خارج البلاد فى بعثة دراسية اذا بالضابط الذى كان مرؤوسا لديه يقود انقلابا ويستلم السلطة مع حفنة من صغار الضباط. وربما اضاعت شدته وصرامته المعهودة عليه فرصة ان يصبح القائد العام او رئيس الاركان عندما استمزجه اعضاء مجلس الثورة الذين لاينكرون كفاءته خاصة المرحوم جعفر نميرى وابو القاسم هاشم ومامون عوض ابو زيد وفاروق حمد الله.والواضح من سرده لوقائع اجتماعه بمجلس قيادة الثورة انهم كانوا منقسمين حياله ففى اليوم الاول حينما اخذ سعادتو يذكر رئيس المجلس (مرؤوسه السابق) وعدد من الاعضاء بدالته عليهم التى لم ينكروها فسار اليوم الاول والثانى للمواجهة مع تلاميذه على مايرام لدرجة ان المرحوم ابو شيبة بادره بالقول (مبروك سعادتك) على ان سعادة الجنرال وهو الخبير فى تقدير المواقف والعارف بتكتيكات المعارك خانته صرامته وهو على بعد خطوات من النصر او لعله بنى تقديره على تهنئة ابى شيبة فأراد ان يقضى على أية مقاومة للخصم فقدم للمعارضين ماكانوا يريدونه بحديثه عن الازبلايط واقدمية الرتبة التى لا بد ان تكون قد استفزت تلاميذه من صغار الضباط مما جعل احدهم ينفعل قائلا (انت دايرنا نقعد فى القصر ونخلى ليك الجيش) وكانت ثالثة الاثافى ان تكلم سعادتو فى السياسة كما يقولون وهو الذى ارادوا له ان يكون بعيدا عنها،اذ جادلهم فى وجود الشيوعيين فاغضب ذلك ممثلهم فى مجلس الثورة،وكان لابد ان تكون حصيلة كل ذلك ان يصدر قرار احالته للتقاعد وهوضربة قاسية للجنرال وطموحه . والواقع ان المتأمل لمذكرات الجنرال يجد ان نفس الموقف تكرر فى الديموقراطية الاخيرة فقد استقطبه السيدان احمد ومحمد عثمان الميرغنى ليكون أمينا عاما للحزب الاتحادى الديموقراطى ومرة اخرى تخونه عسكريته البالغة الصرامة ولا يستطيع مسايرة السياسيين من الملكية حتى يقول (شعرت بان طريقتى فى المشاركة قد اصابت السيد محمد عثمان الميرغنى بشئ من خيبة الامل فى شخصى وبدأ التباعد والتباطؤ وصل الى عدم دعوتى لحضور جلسات المكتب السياسى ص86). وربما كان هذا التباعد بين العسكريين والمدنيين من مهلكات الفترات الديموقراطية فى السودان فالاميرالاى عبدالله خليل وجد نفسه لا يستطيع مسايرة الملكية فى حزبه وخارج حزبه فسلم السلطة لاخوانه فى المهنة والفريق اول عبد الماجد حامد خليل استقال من منصبه كوزير للدفاع لانه ماكان ممكنا ان يحتمل استفزازات الملكية وهجومهم مما ساعد على انهيار النظام. وقبل ذلك ادت العسكرية الصارمة الى استقالة او التخلص من اللواء احمد عبد الوهاب الذى كانت كل التقديرات تشير الى انه الرجل القوى فى نظام عبود.والمذكرات تقدم دليلا جديدا على وفاء المرحوم المشير جعفر نميرى(حياه الغمام)فقد كان حريصا على عدم اهدار الكفاءات وكان يعهد للقوات المسلحة والنظامية بافضل الضباط بدأ بعوض خلف الله ثم عبد الماجد حامد خليل.ووفاء المشير جعله يحمى الجنرال مزمل من مؤامرات( مراكز القوى) التى كانت تنمو وتزدهر فى العهود الشمولية والتى اسماها الجنرال (مجموعة الاذكياء) والتى تفتقد الى اى قاعدة شعبية فأبعده عنهم بتعيينه سفيرا حيث استطاع ان يقدم الكثير من الانجازات فى مجاله وبتسليح القوات المسلحة ثم تعيينه مستشارا اقتصاديا وما لبث ان عينه وزيرا للداخلية وقد استهل عهده بزيارات ميدانية مباغته لكلية الشرطة. واذكر تماما وكنت وقتها برتبة نقيب بقسم شرطة الخرطومجنوب(الاوسط )الآن ان سيادته زارنا متخفيا اذ جاء بملابس عادية ودون حراسة فاخذ يسألنى متى زاركم مدير عام الشرطة ومتى زاركم مدير شرطة الخرطوم ؟،وعلى الرغم من ان فترة تقلده لوزارة الداخلية كانت قصيرة الا ان حسن تعامله للسجناء السياسيين واغلاقه للاماكن المشبوهة على النيل ادت الى استهداف مراكز القوى له وسارعت الى الربط بينه وبين عمل الجبهة الوطنية فى الخارج ومرة اخرى يجد نفسه خارج التشكيلة الوزارية . تأخذك المذكرات الشيقة والسرد الصريح فلا تملك الا ان تواصل القراءة،حيث يكتب عن ترشحه لدائرة ام درمان عقب المصالحة وفوزه بالدائرة فى مواجهة احد مراكز القوى ولا شك انها من الذكريات السعيدة ثم معركة رئاسة مجلس الشعب الثالث والتى حسمها نميرى لغير صالحه . ولا شك ان مجلس الشعب الثالث كان قويا وناجحا فى الحد من طغيان السلطة التنفيذية واجهزتها وما كان ممكنا لتلك الاجهزة ان تتعايش معه . فالشموليون فى كل زمان ومكان يحملون عداء مستحكما للنقد والمحاسبة وكانت نظرياتهم تقوم على ان (لا حرية للرجعية). وقد عاصرت تلك الفترة الهامة حيث استعان النميرى بافضل الكفاءات من الذين قدموا عصارة فكرهم وجهدهم لاصلاح نظام غير قابل للاصلاح .فعلى الرغم من كتابة دستور جيد الصياغة تضمن كل ماتحتويه الدساتير الديموقراطية ورغم اجتهادات المرحوم جعفر بخيت فى استيعاب جماهير المدن والمتعلمين او القوى الحديثة الى جانب جماهير الريف ومحاولة بناء نظام لامركزى الا ان تكتيكات النميرى فى اشعال التنافس بين مرؤوسيه وبين القادمين والقدامى واستئثاره بالسلطة ادت الى عدم استقرار الحكم ثم انهياره. طرح الكاتب رؤاه حول العديد من المشكلات التى حلت بالبلاد كاتفاقية اديس ابابا ولمشكلة جنوب السودان ونظرته للزعامات السياسية واسباب انهيار النظام التعددى. وقد نعود لمناقشة ذلك فى مرة لاحقة وتبقى دعوته للزعيمين الكبيرين الخروج للشارع فورسماعهما للمارشات العسكرية فى 30يونيو89 تنفيذا لميثاق الدفاع عن الديموقراطية دعوة جريئة لتطبيق مفاهيم متداولة عن الشجاعة والاقدام والفداء ونظرية (اتبعنى) فى مقابل (تقدم) ولا ازعم انه يسعى للتخلص منهما فاحدهما يمت له بصلة القربى والآخر ينتمى له سياسيا . ان مذكرات سعادتو مزمل حافلة وجديرة بالقراءة ولسيادته شكرى وتمنياتى له بالصحة والعافية.