(أ) اسمه السر بشير محمد، وهو ذات الاسم الذى ظل يتردد فى اثير »هنا أم درمان« لأكثر من نصف قرن من الزمان، مقرونا بمكتبة الإذاعة الصوتية، التى يعتبر عم السر- أو هكذا ينادونه داخل حوش الإذاعة تقديرا وإحتراما - ذاكرتها المتقدة، فالرجل رغم كبر سنه التى تبدو بائنة فى تجاعيد وجهه الوضئ وما اعتلى الرأس من شيب، يحفظ جل الاعمال الموجودة بالمكتبة، فما أن تنطق باسم الاغنية أو البرنامج او حتى مسلسل ما، يخبرك الرجل برقم الشريط ومكانه داخل دواليب المكتبة. هل تصدق عزيزى القارئ ان عم السر كان أيام شبابه يحول أرقام لوحات العربات الى أغانى.. كيف؟ يحكى السر بشير بشجن »كنت زمان أى رقم عربية أشوفوا طوالى بحولوا لى أغنية او برنامج موجود بمكتبة الاذاعة فى شريط يحمل ذات الرقم، ثم نظر الرجل امامه وأشار بيده قائلاً: شايف العربية الهناك دى، دى رقمها »خ. ه« على النجيلة جلسنا، والجنبها دى »ح .خ« الأوصفوك. (ل) وللسر بشير معزة خاصة لمبنى المكتبة الصوتية للاذاعة، فهى رئته التى يتنفس بها، يصغر عشرات السنوات وهو يتجول بين الأشرطة فى سعادة وسرور ورشاقة، سيترجع التاريخ والأرقام والحكايات، فداخل هذه المكتبة لكل رقم وشريط حكاية يرويها عم السر فى ود وحبور. هنا كان يلتقى بالفنان الراحل حسن عطية الذى جمعته به علاقة صداقة ومودة حميمة، وهناك تحت تلك الشجرة الظليلة تسامرا على عجل، فالفنان حسن عطية كان فى طريقه للقاهرة لتسجيل بعض اغنياته لاذاعة صوت العرب، ساعتها رفض عطية ان يلبى عزومة السر معتذرا فى رقة »أنا يا أستاذ بطلع من البيت جاهز، لكن جيب لى حاجة »ساعة« اجبر بيها خاطرك« هكذا عم السر يحفظ كل تفاصيل سنينه الطويلة فى هذا المبنى العريق. (س) سجل عندك.. قال لي السر بشير فى حسم وإلحاح: »الحاج محمد أحمد سرور أول فنان يغنى بمكرفون الاذاعة، وأول مقرئ الشيخ عوض عمر، وأول مذيع نشرة أخبار عبيد عبد النور، الذى شغل فيما بعد عميد مدرسة بيت الامانة، ونشرة الأخبار كانت فى تلك الحقبة تتضمن تغطية الحرب العالمية الثانية«، ثم قال الرجل مفتخرا دى أول حاجة علموها لينا لمن جينا المكتبة الصوتية للاذاعة. - قاطعته: سنة كم يا عم السر..؟ - سنة 63م، وكان أول مرتب لى »12« جنيه فى عهد الصاغ التاج حمد أيام الرئيس عبود. * اتعينت فى المكتبة؟ - نعم.. وكان مديرها فى ذلك الوقت الأستاذ حلمى إبراهيم. * زامله منو فى تلك الفترة؟ - الصادق أحمد ام بدة وعثمان أحمد عوض (ر) رجع السر بشير من قاهرة المعز فى عام 1969م بعد ان أمضى فيها فترة تدريب بمكتبة اذاعة القاهرة لفترة اربعة اشهر، أذهل فيها المصريين بمقدرته الفائقة فى حفظ ارقام الأشرطة وموقعها داخل المكتبة، فطلبوا منه أن يعمل معهم، ولكن حب ام درمان واذاعتها كان ومازال أكبر عند السر، فاعتذر عن العرض، وهو ما حفظته له الإذاعة، الام الرؤوم، فعينته متعاونا بعد ان احيل للمعاش الإجبارى، فهو الآن بمثابة الأب الروحى للمكتبة وذاكرتها التى لا تشيخ. (ب) برنامج »هذا اللحن« واحد من البرامج التوثيقية الشهيرة التى اعدها وقدمها السر بشير للاذاعة السودانية، ويقوم البرنامج على اختيار أغنية واحدة يقدم عم السر تاريخ تسجيلها بالاذاعة، وعدد الاغنيات المسجلة للفنان بالمكتبة والشعراء والملحنين الذين تعاونوا معه فى مسيرته الفنية، وكان يزيد من ثقافته الخاصة وارتباطه بعدد من الفنان مكان نشأة الفنان ومسقط رأسه. فضلاً عن هذا البرنامج عمل السر بشير أيضا بمكتبة التلفزيون، حين استعان بهم البروفيسور على شمو ابان توليه ادارة التلفزيون، ولكنه سرعان ما عاد الى الاذاعة بعد ان رفض حلمى ابراهيم مدير مكتبتها عملهم بالتلفزيون باعتبارهم من اركان مكتبة الاذاعة ولا يمكن الاستغناء عنهم. (ش) شكل السر بشير ثنائية مع السر محمد عوض فى البرنامج الشهير »من الارشيف« الذى اصبح اسمه الآن »الاذاعة زمان«، وهو برنامج تختار فقراته بعناية من ذاكرة المكتبة المليئة بالتسجيلات والبرامج النادرة، كما عمل فى كل برامج الإذاعة رافدا لها بالتسجيلات التى يحفظها عن ظهر قلب. * يا عم السر التسجيلات الجديدة بتحفظها؟ - بحفظ لكن الكبر دخل يا ولدى. ويعمل السر بشير فى نشاط وابتهاج مع فريق المكتبة الصوتية بالاذاعة، على تحويل الأعمال المسجلة من أشرطة الريل الى أجهزة الحاسوب، فعم السر يعتبر المرجع لكل الأعمال التاريخية الخالدة. (ي) ينعم السر بشير بدفء الأسرة بعد أن رزقه الله بذرية صالحة، فللرجل من الأبناء جمال ومرتضى، ومن البنات سلوى وسماح وسلمى، وعند ذكر البنات ابتسم الرجل ضاحكا وهو يقول: بناتى ديل عندهن أرقام فى المكتبة دى..!! ? سألته: كيف؟ - سلوى أغنية لإبراهيم عوض، وسماح لعلى إبراهيم، وسلمى لعبد المنعم الخالدي..!! (ر) رجل في قامة السر بشير جدير أن نحتفي به، ونوثق سيرته العطرة لتكون نبراسا للأجيال المتعاقبة على الإذاعة، لينهلوا من رحيقها وعبيرها الفواح.