(ما حققناه يعتبر نجاحا) بهذه العبارات اختتم مدير منظمة افريقيا للعدالة مؤتمر التعايش السلمي بين الدينكا والمسيرية في مدينة كادقلي قبل ان يصل لمراحله الختامية بعد احتجاج السلطان كوال سلطان دينكا نقوك على مواصلة الجلسات احتجاجا على عدم حضور نظيره الناظر مختاربابو نمر ناظر عموم المسيرية. ثنائية التناقض المتمثلة في الفشل من الوصول الى خاتمة المؤتمر وحديث المنظمة عن نجاح كانت هي السمة المميزة للمؤتمر في يومي انعقاده الاولين، وبحضور اكثر من مائة شخص من الدينكا والمسيرية وعدد من الاجاويد وبرعاية من مفوضية التقويم، وغياب كان مسار تساؤلات الجميع يتعلق بحكومة ولاية جنوب كردفان وبحسب ما هو موضوع في البرنامج كان محددا ان يحضر الوالي احمد هارون جلسة الانعقاد الاولى ولكنه لم يحضر . استمرت بعدها عمليات التناقض التي بدأت اول مرة في دعوة لمؤتمر تعايش بين دينكا نقوك والمسيرية بالرغم من ان التاريخ يشهد لهم حالة من التعايش طوال سنوات مضت. تعايش بدأت صورته واضحة في شعار المؤتمر الذي تم توظيف الصورة التي تجمع بين الناظر بابو نمر والسلطان دينق مجوك للتعبير عنه، وحمل الابناء الى المستقبل من اجل رسم سيناريوهاته بعيدا عن حالة النزاع التي بدأت تلوح في الافق وتلبد الغيوم التي تعترض الرحلة الممتدة لسنوات ومعها حق تقرير المصير والتاسع من يناير الذي بدأ يقترب وبشدة قد تبدو حكايات المؤتمر من اول وهلة اشبه بحكايات الف ليلة وليلة، الا انها في واقع الامر تبدو حقيقة تمشي بين الناس وتحدد تفاصيل تعاطيهم مع القضايا والمشكلات، خصوصا تلك القضايا التي ترتبط بحالة الصراع باعتبارها تعبيرا انسانيا لم يرتبط وجوده بشكل معين من اشكال النظم السياسية في العالم. المسيرية والدينكا حالة من التواصل عبر ازمان تواصل فرضته طبيعة الحياة ورحلة البقر السنوية والمراحيل في غدوها ورواحها واتجاهها جنوبا تحمل الخير للقاطنين هناك وتحمل مع الخير الشر، تلك هي معادلة الحياة وتلك هي علاقات الرعاة والمزارعين منذ الازل لم تكن علاقات اولاد بابو نمر وابناء دينق مجوك استثناء عن هذا الامر سواء في حالة التواصل الحميم بينهم طوال تاريخهم المشترك عبر ادارتهم الاهلية نظاراتهم ومشيخاتهم هكذا كانت ولكنها لم تعد كذلك الان. البعض يتهم جلباب السياسة بأنه السبب الاساسي في قطع علاقات التواصل بين الطرفين وهو الجلباب الذي حاول منظمو المؤتمر خلعه منذ البداية من اجل الوصول الي اتفاق وتعايش بين الطرفين من خلال سعيهم لعلاج الموضوع في اطاره الاهلي، ومن خلال ارث السودانيين في الجودية والجلوس تحت (ضل الشجرة ) الضل متعدد الفروع في المؤتمر حيث قطع المك يوسف عدلان الفيافي من النيل الازرق وصولا للجبال من اجل الصعود والعبور فوق متاريس الخلاف بين الطرفين في اطار المعالجات الاهلية والجودية، فقد استلم رئاسة المؤتمر في جلسته الاجرائية الاولى الا انه قبل ان يستلم المنصة بدت حالة من الشد والجذب عندما بدأ الحديث ممثلو المجموعتين والذي ابتدره (سلطان الدينكا كوال دينق مجوك الذي غير مجرى الحوار ورأى انه في ظل غياب نظار قبيلة المزاغنة واولاد كامل والفضلية باعتبارهم المعنيين بالامر فإن الرسالة تدل على مؤشر غير طيب وبالتالي لا امل ايجابي مرجو من هذا اللقاء حسب تعبيره، وقال خلال اللقاء كلمته (جئنا لنرمي بسهامنا من اجل السلام ولبينا الدعوة لنصلح ما افسده الدهر )، وشكر نائب الرئيس الفريق اول سلفاكير ميارديت لاهتمامه بأبيي ووقفته الى جانب مواطنيها. وزاد التعايش السلمي انشودة طيبة بيد انه عاد وقال اصبحت مسيخة بين السودانيين لانها انحرفت عن مسار ما يدعو له الاجداد من تبادل الاحترام بين الناس وحفظ الحقوق، ووجه اتهاما صريحا للخرطوم والمسيرية بأنهما يريدان ان تصبح ابيي تحت وصايتهما ويسعيان لاقصاء الدينكا من الارض على الرغم من ان قرار لاهاي حدد رقعة للدينكا على حد قوله، وقطع بأن الدينكا لن يسمحوا بأن تهدر حقوقهم مهما كانت الامور السياسية واتهم النظار الذين تغيبوا عن المؤتمر بأنهم موجهون من قبل الحكومة. ما افسده الدهر كان في مداخلة المسيرية الذين اعترضوا على ممثلهم الاول في الحديث مطالبين بأن يكون المتحدث با سمهم الدكتور حسب النبي، والذي اكد على ان الفساد الاساسي جاء عبر بوابة السياسة محددا الحركة الشعبية بأنها السبب الرئيس فيما يحدث، وان الاخوان من دينكا نقوك يحملون الان هذا اللواء قبل ان يستغل هو نفسه عربة السياسة ويقول ان الاساس في الحوار هو ما جاء في مؤتمر الستيب ليأخذ المؤتمر طبيعة النزاع السياسي ويختلط فيه حابل المؤتمر الوطني بنابل الحركة الشعبية، وتنفض على هذا الاساس الجلسة الافتتاحية بين الطرفين ويتمسك طرف الدينكا بضرورة حضور (نظارالمسيرية ممثلين في مختار بابو نمر او اسماعيل حمدين الذي حضر الى ساحة المؤتمر في قاعة ايفاد صباحا، حيث ظن الجميع انه جاء للمشاركة قبل ان يتضح وبحسب بعض الافادات ان الغرض من حضوره كان هوسحب المشاركين من افراد قبيلة المسيرية ومنعهم من المشاركة في المؤتمر . في لحظة قبل انفضاض الجلسة الافتتاحية ارتفعت اصوات الاحتجاج من الطرفين وخصوصا من قبل كوال سلطان الدينكا و كاد يحدث الاشتباك بين المجموعتين لولا التدخلات التي قامت بها لجنة الاجاويد ليترك بعدها الدينكا القاعة الى الخارج ويلحق بهم المسيرية في الساحة الخارجية التي ظننتها من الوهلة الاولى ستكون ساحة للصراع والتشابك بالايدي الا انه هالني ما رأيت فمن كانوا على شفاء حفرة من الاشتباك داخل القاعة تشابكت اياديهم خارجها واحتضنوا بعضهم البعض مستعيدين شريط الذاكرة لاحداث تجمع سابقة ولحظات من الانس الجميل اكواب الماء وقوارير البارد والشاي كانت رسائل للوصل معها الابتسامات التي غطت وجوه الجميع والعبارات المتبادلة بين لهجة المسيرية العربية ولهجة الدينكا التي يعرفها ويتحدث بها كل من كان هناك، وبإجادة تامة فعند الحديث لايمكنك التفرقة بين اولاد نقوك والمسيرية، جلوس الدينكا بسلطانهم خارج القاعة لم يستمر طويلا فسرعان ما جاء المك ود عدلان مطالبا اياه بالعودة الى داخل القاعة بعد تدخل الاجاويد الذين لا ترد كلماتهم هناك عاد الجميع مرة اخرى الى داخلها لمواصلة الحوار وتبادل الكلمات بحثا عن طريق ثالث يتم من خلاله اكمال المؤتمر، طريق اعترضته اشواك وغصص ودموع في العيون التي ادمتها الحرب والدواس وباتت تبحث عن نقطة امان كالذي يحدث في سوق السلام في (وار وار) كما حكى لي عنه احد شباب المسيرية ادم دليل والذي بات يحن الى ايام السلام والامان في الوقت الذي لا ينفي استعداده للدواس من اجل الحفاظ علي الارض التي يرى المسيرية ان السلام اخذها منهم وهو ما ينطلق منه الدينكا الذين يرون في جيرانهم مهددا اساسيا، وفي نقاشي مع الطرفين تبين لي ان كل طرف يحاول ان يصور نفسه بأنه مظلوم وانه صاحب حق امام الاخرين، الا ان ثمة اقتناع مؤكد لديهم انهم معا لا يستطيعون فكاكا من علاقات السنين الممتدة وبغض النظر عن نتيجة الاستفتاء وحدة كانت ام انفصالا، وحتى ان اختاروا هم الفراق فإن الابقار لن تسطيع البقاء بعيدا عن رحلتها المعتادة وستعبر عن ذلك من خلال الاتجاه جنوبا او ذرف الدموع التي لم تكن مفترضة وحكرا على الابقار، وانما حملتها تلك السيدة في كلماتها بعد ان عاد الوفدان الى القاعة فقد حملت (اسيا المسيرية المولودة في ابيي وعاشت طوال عمرها هناك قبل ان تغادرها بعد الاحداث الاخيرة وارتفاع اصوات البنادق التي لم ترها في عز اوار الحرب، وجهت كلماتها او رصاصاتها نحو الجميع وهي تقول كفانا دموع وموت ونحنا (اخوان) وهي العبارة المستخدمة من كل فرد في حديثه مع الاخر، وحرام ان ندفع فاتورة الصراع بين جوبا البعيدة والخرطوم الاكثر بعدا. اقعدوا في الواطة وحلونا. ونفس العبارات رددتها بلغة الدينكا .البعض حبس الدموع في المآقي واخرين اختاروا الخروج من القاعة فقد هزهم الموقف الذي بدا واضحا تأثيره على كوال دينق الذي رد قائلا ان شاء الله خير يا اختي. بعد عبارات اسيا استلم المك عدلان المنصة واعلن عن استمرار الحوار في اليوم التالي بعد اقناع قادة المسيرية بالانضمام للملتقى، واعدا بتدخل والي جنوب كردفان في الامر. الخروج من القاعة للجميع كان كسابقه فالايادي تشابكت والضحكات كانت سيدة الموقف مما جعل احد الصحفيين يقول المؤتمر دة لو تموه برة بنجح يقصد برة القاعة وليس برة السودان، بعدها تناول الجميع وجبة الغداء واستغلوا الحافلات مغادرين الى أماكن السكن مع وعد باللقاء في البرنامج الاجتماعي للتعارف في العشاء، وهو ما لم يكن يحتاجه الحاضرون فالجميع يعلم عن الجميع كل شئ منذ ميلادهم والى الان، وهو ما بدا بائنا في البرنامج الثقافي والجميع يتبادل مكبر الصوت يحي في الجميع وبالاسم اكتملت الليلة وعاد الكل الى اماكن النوم على أمل ان تشرق صباحات اليوم القادم بحلول للمشاكل وبتأكيد على قيمة التعايش التي عبر عنها الجميع وهو ما لم يحدث في اليوم الجديد ووصل الجميع الى طريق مسدود باستمرار. الحوار يتعلق باستمرار غياب ممثلي المسيرية وقادتهم بالرغم من ان كوال قال ان الغائب عذرو معاه اعلنت لجنة الاجاويد برئاسة المك يوسف عدلان في بيان لها عن تأجيل المؤتمر الى اجل غير مسمى بسبب غياب بعض قادة الادارة الاهلية الاساسيين للمسيرية حسب تعبير البيان، معتبرا ان الامر يحتاج الى حشد عدد كبير من زعماء المجموعتين لضمان تنفيذ المقررات التي يمكن الاتفاق حولها بيد ان بعض المشاركين في وفد المسيرية بينهم الدكتور حسب النبي رحمة احتج على بيان الاجاويد واعتبره تلبية لرغبة كوال دينق سلطان الدينكا في مواصلة الحوار الا ان مشاركين اخرين من المسيرية بقيادة العمدة محمدحماد اكدوا على ضرورة مواصلة الحوار والاستعداد التام لبذل الغالي من اجل السلام والطمانينة، معتبرا ان قبول الدينكا مبدأ الجلوس للحوار خطوة ايجابية في اتجاه السلام. من جانبه، اكد سلطان الدينكا وقائد وفدهم ان السعي الى تحقيق السلام هو وظيفة (الكبار) والذين يجب عليهم تجاوز الصغائر من اجل تحقيق التعايش، واكد على حرصهم التام كدينكا نقوك على استمرار الحوار بين الجماعات المتكافئة، واضاف ان حضور مختار بابو نمر كان سيمنح تنفيذ المقررات قوة دفع أكبر بغض النظر عن ما تؤول اليه نتائج الاستفتاء مبديا تأييدهم الكامل لما جاء في مقررات البيان الختامي. الاختلاف حول مقررات البيان بين المجموعتين لم يستمر طويلا ، إذ سرعان ما عادت الامور الى نصابها الاول في لحظة الوداع التي عبرت عنها دموع جديدة بللت خد كوال وهو يودع اسيا وبدت اكثر وضوحا في تحلق الجميع حول حافلة الدينكا المغادرة في طريقها الى ابيي متمنين ان تعود اطاراتها في المرة القادمة قاطعة الطريق نحو التعايش والسلام الاجتماعي بين الاشقاء من أبناء دينق مجوك واولاد بابو نمر. امنية تجد نفسها في مواجهات وصراعات ورغبات بين الخرطوموجوبا التي تعترض الحوار ومعها المرحال الذي ازفت رحلة مغادرته جنوبا.