للاستقلال طعم خاص لدى كل جيل من اجيال السودانيين يختلف من جيل لجيل... ومن حسن حظ ابناء جيلنا انهم قد احتكوا بجيل الآباء من صناع الاستقلال، والذين ذاقوا مرارة القهر على ايام الاستعمار وقاوموه بوسائل شتى. ولدى بعض الاجيال التي ولدت في الستينيات والسبعينيات ومن القرن الماضي وما بعدها، وقد عايشوا انظمة سودانية اخذت من الاستقلال بريقه، واطأت جذوته، ولم تعد ذكرى الاستقلال سوى اناشيد وكلمات واحاديث في اجهزة الاعلام. الامر يتعلق هنا بمناهج التعليم والسياسات الثقافية والاعلامية التي انتهجتها حكومات السودان المتعاقبة. وحينما يرتفع صوت الفنان محمد وردي (اليوم نرفع راية استقلالنا) فإن مجموعة من الذكريات تنهال على من كانوا آنذاك صبية وشبابا، وهم يرون الفرحة الغامرة في يوم الاستقلال.. ربما كنا لا ندري عظمة ذلك اليوم، ولكنا كنا نرى اعلام السودان مرفوعة ترفرف في كل بيت .. واليوم تجئ ذكرى ذلك اليوم غائمة، مضطربة في الذاكرة. اذكر ونحن في اواخر الخمسينيات، وكنا نرى اللافتات على المحلات في طريقنا لمدرسة مدني الشرقية الاولية - وقد تبدل اسمها الآن - ومن ضمن ما قرأناه على احدى السيارات (حزب الامة صانع الاستقلال) وسألت أبي : وكان رجلا حصيفا - حزب الامة احد صناع الاستقلال ولكنه ليس الصانع الوحيد - الشعب السوداني كله بتضحياته ونضاله شارك في صنع هذا الاستقلال - كان هذا اول درس في السياسة اتعلمه من والدي -وفي ذات الوقت جاء الاستاذ ادريس عبدالحميد للفصل وسأل من صنع الاستقلال، واجاب زميلي محمد عمر محمد عبدالله: ازهري ، ومحمد من اسرة اتحادية معروفة فوالده عمر محمد عبدالله هو الذي وثق لمعركة البرلمان الاولى 1953م، في كتاب توثيقي مهم، ثم التزم جانب الشريف حسين الهندي في مقاومته لنظام مايو- وعمه الدكتور عثمان محمد عبدالله الذي فرضه اتحاديو ودمدني على قيادة الحزب في برلمان 1968م، واسقطوا مرشح الحزب الرسمي في انتخابات 1986م،الاستاذ احمد دهب حنين - عليهم رحمة الله جميعا. الشعوب نهضت في الفصل لاقول ما وعيت من الوالد ان السودان كله قد ساهم في تحقيق الاستقلال-واشاد الاستاذ ادريس بهذه الاجابة - وقال ان الازهري قدرفع العلم، ولكن كان محمد احمد محجوب الى جانبه رمزا لوحدة الحكومة والمعارضة آنذاك في معركة الاستقلال (ما ضر لو اشركوا شخصية جنوبية في هذا الشرف). وهذا استدراك نقوله الآن بعد تجارب - ولكن كان القوم في لهفة وفاتت عليهم بعض هذه اللقيات.. وكانت جراح المذبحة التيت حدثت للشماليين في اغسطس 1955م، ماثلة امام الابصار، كما ان الاحساس بالجهوية لم يكن ماثلا كما هو اليوم. سبق هذا اليوم اول يناير 1956م، احداث جسام - ففيه بدأت الخلافات تدب بين زعماء الاتحاديين، وان ظل الخلاف في اطار ضيق - وبدت نذر قطيعة مع مصر التي فاز الاتحاديون باسم الاتحاد معها بثقة الناخبين السودانيين..وعن تلك الانتخابات نعتقد ان بعض المؤرخين لم يقرأوا نتائج تلك الانتخابات جيدا، وما ترتب عنها. الكثيرون قرأوا نتائج تلك الانتخابات بأنها تصويت لصالح الوحدة او الاتحاد مع مصر، ولكن كانت هناك عوامل اخرى محلية منها ما يتعلق بالتاريخ السوداني، والتحالفات القبلية، والولاءات الطائفية والقبلية. فبعض المناطق كانت ترى في حزب الامة وجها آخر من وجوه عودة المهدية - وشئنا ام ابينا، فقد كانت هناك قبائل وقعت في وجه المهدية منها على سبيل المثال الشكرية والبطاحين والكبابيش وقطاعات واسعة من الجعليين بعد مذبحة المتمة - وقبائل البني عامر في شرق السودان. وقطاعات اخرى من المواطنين كانت ترى في الاحزاب الاتحادية خصما لدودا للاستعمار البريطاني، ومناضلا ضده في حين ان الدعابة المضادة ركزت على ان حزب الامة هو صديق للانجليز. ومن الكتب المهمة التي تناولت هذه القضية كتاب د. عبدالوهاب احمد عبدالرحمن (الحركة الوطنية السودانية بين وحدة وادي النيل والاستقلال الصادر عن دار القلم - الامارات العربية المتحدة 2007م. - الفصل الاول: وقد تناول في الجزءت الثاني: بريطانيا وتطوير المؤسسات الدستورية السودانية، وموقف الاحزاب السياسية منها. وفي الفصل الثاني- تجدر موقف الاحزاب السياسية تجاه وحدة وادي النيل والاستقلال. والفصل الثالث: - تنازل حكومة الثورة المصرية عن السيادة على السودان واعترافها بحق تقرير المصير وفي الفصل الرابع:- الانتخابات البرلمانية وقيام الحكم الذاتي- وفي الفصل الخامس والاخير: - المناورات الطائفية والحزبية واعلان الاستقلال. ومن يتابع حركة السياسة السودانية منذ اواخر الاربعينيات يلاحظ عدة امور مهمة، ومتغيرات .. فالتيار الصاعد هو تيار الحرية والاستقلال ، وقد شمل الحراك الاجتماعي قطاعات واسعة من الشعب السوداني، والفضل في ذلك يعود الى الالتفاتة المبكرة للخريجين الى دور قطاعات، العمال والمزارعين في القطاع الحديث - ثم جاء المد اليساري ليضيف بعدا جديدا لهذا النضال، مستصحبا تعميق الوعي الاجتماعي لهذه الفئات، كما يتجلى في حركة مزارعي مشروع الجزيرة ونقابة السكة حديد في عطبرة مما يحتاج الى القاء مزيد من الاضواء على هذا البعد الاجتماعي والسياسي الذي اقلق الانجليز ومن ظنوهم حلفاء لهم. ويلفت النظر كمال د. عبدالوهاب احمد عبدالرحمن ان شخصية مثل علي طالب الله قد ورد اسمه كثيرا دون ان يلقي من الناس الاهتمام وهو الذي قام بتأسيس جماعة الاخوان المسلمين وله حوار في السجن مع الاستاذ محمود محمد طه - يقول د. عبد الوهاب (وكان حزب الاشقاء الاحرار قد نشأ كانشقاق من حزب الاشقاء في اكتوبر 1949م، بزعامة علي طالب الله وكامل الاحمدي وقد اعلن هذا الحزب عند انشائه انه يهدف الى انهاء الحكم الثنائي في السودان، وجلاء الاستعمار جلاء تاما وناجزا سياسيا واقتصاديا وعسكريا عن وادي النيل، والى قيام حكومة ديمقراطية حرة في اتحاد مع مصر تحت التاج المصري مع و حدة الدفاع والتمثيل الخارجي، على ان تكون الحكومة السودانية متحدة اتحادا حقيقيا في دولة وادي النيل. وقد ظلت الاسئلة حائرة عند كثير من المصريين والسودانيين والمراقبين من خارج القطرين عن الكيفية التي تحول بها الحزب الوطني الاتحادي بقيادة السيد/ اسماعيل الازهري من فكرة الاتحاد مع مصر الى تبني الدعوة للاستقلال. وقد جاء هذا التحول نتيجة لعدة عوامل، جرت في الساحة السياسية السودانية والاقليمية والدولية. ومن ضمن ما جرى ان حكومة ثورة 23 يوليو 1952م، في مصر قد تخلت عن المطالب المصرية القديمة بالسيادة على السودان، وفتحت الباب امام السودانيين لتقرير مصيرهم بأنفسهم، وكانت اتفاقية نجيب/ المهدي التي عقدت بين اللواء محمد نجيب والامام عبدالرحمن المهدي فاتحة لكثير من الامل لاذابة الجليد في المسألة. يقول د. عبد الوهاب (احدثت ثورة 23 يوليو 1952م، نقلة نوعية في موقف مصر من السيادة على السودان ، فعلى غير حال الحكومات ا لمصرية السابقة التي كانت تؤمن بان السودان جزء لا يتجزأ من مصر، وتنادى بالسيادة عليه مستندة في ذلك على اسباب تاريخية وجغرافية، باعتبار ان السودان امة واحدة تعتمد على نهر واحد و لا يمكن الاستغناء عنه لكليهما). وكانت الحكومات المصرية السابقة لا تتعاون إلا مع السودانيين الذين ينادون بوحدة وادي النيل، وترى ان اي وضع آخر سيترتب عليه تفريط وتهديد لمصالح مصر الحيوية في مياه النيل، ونرفض طرح المسألة السودانية خارج هذا الاطار، في كافة المفاوضات التي جرت بينها وبين الحكومات البريطانية المتعاقبة في الفترة ما بين 1920 - 1950م، جاءت حكومة ثورة 23 يوليو 1952م، فتنازلت عن المطالبة بسيادة مصر على السودان ، وقبلت الفصل بين مسألتي الدفاع والسودان، واعترفت لأول مرة في تاريخ الحكومات المصرية، بحق الشعب السوداني في تقرير مصيره اما باختيار الاستقلال التام او الارتباط مع مصر، كما وافق على ان يكون مشروع قانون الحكم الذاتي الذي رفعته حكومة السودان الى دولتي الحكم الثنائي في 8 مايو 1952م، اساسا لمفاوضاتها مع الاحزاب السياسية المختلفة التي لا يؤمن بعضها بوحدة وادي النيل مثل حزب الامة مع الحكومة البريطانية. ولعل ابناء جيلنا يذكرون الضجة التي ثارت بعد رحيل جمال عبدالناصر في 28 سبتمبر 1970م، والمراجعة التي تمت لانجازات و اخفاقات ثورة يوليو ، وكانت آراء الجيل القديم الرافض للثورة وما جاءت به ، وكذلك الاجيال الجدد ان من ضمن مساوئ الفترة الناصرية انه اضاع علينا السودان - الامر الذي اثار عدة ردود فعل سودانية في منتصف السبعينيات، خاصة اذا تمت قراءتها في فترة مايو ، ايام الحلف الوثيق بين نميري والسادات - وكانت ضربة البداية في هذا الهجوم على عبدالناصر، واعادة اثارة مسألة السودان من الكاتب الكبير توفيق الحكيم (عودة الوعي - ووثائق في طريق عودة الوعي). وثمة امر كشفت عنه وثائق ومذكرات النصف الاول من خمسينيات القرن الماضي - خاصة عند كتابات اللواء محمد نجيب، وهو يتحدث عن الارتباط العاطفي والمصيري بين السودان ومصر. وقد كان النهج العنيف والثوري الذي انتهجته قيادة جمال عبدالناصر ضد خصومها السياسيين، و الذين ارتبطت بهم قيادات الاتحاديين السودانيين، ومع اللواء نجيب نفسه، ومع جماعة الاخوان المسلمين عام 1954م، وغياب الديمقراطية كل هذا اثار مخاوف في الصف الاتحادي، وكذلك التباين بين القيادة المصرية الشابة، والقيادات السودانية المخضرمة والتي ظلت تخوض في ميدان السياسة بكل مناوراتها وتعقيداتها ومكابداتها، كل هذا قد باعد بين النخب السياسية السودانية، وقيادة الضباط الاحرار في مصر، ونهجهم المتسارع، يضاف الى ذلك ان شعار وحدة وادي النيل لم تنزل الى ارض الواقع كمصالح اقتصادية وخدمات، لهذا لم يكن رغم الارتباط العاطفي والوجداني، الا ان القيادات السياسية الاتحادية حينما بادرت الى اعلان استقلال السودان من داخل البرلمان، في 19 ديسمبر 1955م، في حاجة الى مزيد من الاقناع. وارتكبت اجهزة الاعلام المصري اخطاء في ذلك الوقت لعدم تفهمها سيكلوجية الشعب السوداني، وعمق ارتباطه بقياداته، حافزا لهذه القيادة ان تستمر في نهجها الاستقلالي الجديد، والذي تناغم مع دعوة الاستقلال التي كان يرفعها حزب الامة اصلا، والتي وجدت الاستجابة حتى من قواعد الاتحاديين! وجاءت مشاركة وفد السودان في مؤتمر باندونق باندونيسيا لتضع حدا لآمال الوحدويين في السودان، وما ظلت الاجيال في مصر تتوارثه من جيل الى جيل عن ان السودان ومصر قطر واحد. وينقل د. عبدالوهاب احمد عبدالرحمن عن مذكرات محمد نجيب (كنت رئيسا لمصر):- (ان موضوع تقرير المصير للسودان لم يكن ليزعجني، ولا يثير القلق في نفسي، فقد كنت ادرى الناس بالعلاقة الخاصة بين شعبي وادي النيل.. كما انني كنت احترم ارادة شعب السودان تماما، كما احترم ارادة شعب مصر، وبنى محمد نجيب استراتيجية على فصل استقلال السودان عن استقلال مصر اثناء المفاوضات وكانت نقطة الانطلاق في تفكيره كما يقول هو نفسه، هي ان يحول بين السودان وبين الارتباط ببريطانيا عند تقرير المصير، فاذا تحقق هذا فإنه قد لا يكون امامه الا حلين: اما الارتباط بمصر في صورة وحدة او اتحاد، واما الاستقلال ، وسينزع ذلك اقدام المستعمر من وادي النيل، وأن النجاح في ذلك سيعد خطوة سياسية عظمى. وتجدر الاشارة الى ان اعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا مشغولين آنذاك في التفكير بمسائل اخرى غير المسألة السودانية، التي كانت تأتي في ذيل قائمة اهتمامهم ومتابعتهم، ولم يكن عندهم الوقت الكافي ليستمعوا الى التقرير الشامل الذي اعده لهم حسين ذو الفقار صبري عن السودان،، وانهم باستثناء محمد نجيب الذي كان له اهتمام خاص بالسودان ومتحمسا لقضاياه، قد ضاقت ذرعا بالخلاصة المختصرة للمذكرة التي عرضها عليهم في المجلس حول الموضوع. في 20 اكتوبر 1952م، وصل السيد عبدالرحمن المهدي الى القاهرة قادما من لندن وبصحبته عبدالرحمن علي طه، وعبدالحليم محمد ومأمون حسين شريف، من اقطاب حزب الامة، وقد استقبله اللواء محمد نجيب ، وصحبه استقبالا كريما جدا . وكان محمد نجيب قد اعلن في يوم 8 اكتوبر 1952م، اي قبل وصول السيد عبدالرحمن المهدي الى القاهرة بانه: (اذا كانت لمصر «مطامع» في السودان فقد ذهب هذا العهد وذهبت معه مطامعه، ان مصر الحديثة لن تفكر في يوم من الايام ان تكون لها «مطامع» في السودان، ولكنها تؤمن بأن لها في الجنوب «مصالح» وثمة فارق كبير بين المصالح والمطامع . وبقدر ما تؤمن مصر بأن لها (مصالح) في الجنوب تؤمن بأن للجنوب (مصالح) في مصر.. ومن هنا يجب ان يبدأ الحديث بين السودانيين والمصريين.. وقد اعتمد د. عبدالوهاب احمد عبدالرحمن في كتابه الهام بجزئيه على مجموعة من المراجع والوثائق المهمة والتي تلقي الضوء على هذه الفترة المهمة في تاريخنا..