بعيد زيارة نائب رئيس مجلس الوزراء الكويتي ووزير الخارجيه الشيخ ناصر الأحمد جابر الصباح دفعاً للمشروع ولعجله التنمية والإعمار بالسودان. بيد أن الحقيقة تبقى ماثلة أمام أعينهم، لم يكن ثمة مناص للدوائر السياسية والمراكز البحثية ومنظمات الغذاء العالمي إلا اتخاذ جملة من التحذيرات والتدابير، على لسان خبرائها بأن هذا القرن سيشهد صراعاً محموماً على الموارد الطبيعية بشكل غير مسبوق، ولم يشهد له العالم مثيلاً من قبل، وإن أوضح هذه الملامح والمتغيرات تتمثل في أن القارة الافريقية على وجه الخصوص ستكون محط أنظار وأحد المصادر الرئيسية في ذلك الصراع والتنافس اللاهث، ومرده نظراً لأن ثروتها ما زالت مخبوءة وبكراً داخل الأرض من ثروة نفطية، ومعادن، التي على ظهرها من مياه جوفية وأنهار، ولعل السودان على وجه الخصوص غني بموارده المائية، مثل النيل والأنهار المتفرعة منه شمالاً وجنوباً وشرقاً والمياه الجوفية داخل أراضيه والأمطار الموسمية التي تهطل من السماء على مدار العام غزيرة ومدرارة. مواردنا المائية من أهم عناصر الثروات الطبيعية التي وهبها الخالق لهذا البلد العظيم، وإذا كان العالم يتحدث الآن بالصوت العالي عن الدور الحقيقي للسودان في معالجة أزمة الغذاء العالمية، لأنه يعرف جيداً حجم تلك الموارد متى أحسن استثمارها بكفاءة واقتدار، في مواجهة أزمة الحروب القادمة حرب الغذاء وحرب المياه ويتوقف الأمر على مدى أوضاعنا المائية ومدى انتباهاتنا للمخاطر والمآلات، ومدى استثمارنا المفيد والاستراتيجي لها، العالم جله يعيش تحت «خط الفقر المائي» ودول أخرى مهددة بالدخول في طائلة إنعدام الماء كلياً، لذلك ينبغي النظر بعين فاحصة لهذه المخاطر المحدقة من منظور «الأمن المائي» والأهم في هذا الشأن التعريف والتوعية بحسن استخدام المياة في مجال التنمية الزراعية في إقامة السدود والخزانات وحصاد المياه، حتى لا تذهب آلآلآف هكتارات المياه هدراً ومن غير طائل، الأمر الذي يحتم علينا المحافظة عليها بمنظور استراتيجي، وإدخارها لسنوات الندرة والقحط، ويعتبر شح المياه في يومنا هذا مشكلة تؤرق شعوب الدنيا قاطبة إذ لا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات البشرية العيش بدونها حيث ان التجمعات الأولى كانت قد أقيمت على ضفاف الأنهار، بل إن جميع الحضارات العظيمة التي قامت على مر التاريخ كانت المياه ووجود الأنهار سبباً في إقامتها كحضارة الرافدين وحضارة وادي النيل ومروي ونبتة القديمة. وتأتي أهمية المياه على كل ما سبق كون إنها تستخدم للأغراض الصناعية والزراعية. فضلاً عن الاستخدامات الأخرى قال تعالى: «وجعلنا من الماء كل شيء حي» لقد تحولت المياه في ظل تزايد معدلات الاستهلاك والندرة الملحوظة في مصادرها الى محور من أهم محاور الصراع الدولي. عوداً على بدء منذ أربعة عقود ونيف من الزمان خلت، ظل خزان «ستيت» حلماً يراود أهل الشرق قاطبة على امتداد ولاياته الثلاث، وظل الأمل والرجاء معقوداً على إنشائه لإنتشالهم من وهدتهم الطويل التي أفضت بهم الى ثالوث الفقر، والجوع، والمرض، وظلت الأصوات تنادي حتى «بح الصوت» وخفت شعاع الأمل والرجاء، نسبة لأن الحكومات السابقة والمتعاقبة على سدة السلطة كانت لا ترى أبعد من أرنبة أنفها، أضاعت فكرة إنشاء الخزان منذ العام 1946م في خضم الصراعات وتضليل الجماهير الصابرة والمحتسبة بالشعارات الإنتخابية الجوفاء والبراقة، التي ما أورثتنا إلا الهزائم وصار خزان «ستيت» حلماً بعيد المنال والتحقق، وظلت الدراسات والمساحات الجيولوجية الأولى حبيسة للأدراج وردهات المكاتب لفترات ليست بالقصيرة، ولم يتم إزاحة الغبار العالق بها كمشروعات حية معاشة تمشي بين الناس، ونتاجاً لهذا الإبطاء وعدم النظر الى لب القضايا المصيرية ذهب المشروع أدراج الرياح، الذي كان يعد في خانة المشروعات القومية الكبرى ويعتبر خزان «ستيت» من أبرزها لارتياد الآفاق المستقبلية. بدأ التفكير في خزان ستيت في العام 1946م، في منطقة «الروميله» بمحافظه «الفشقه بأعالي نهر عطبرة» تلك المنطقة الرعوية التي ظلت على طبيعتها بالرغم من قيام خزان خشم القربة في العام 1963م وتغييره لواجهة المنطقة من رعوية الى زراعية استقر على إثرها الكثيرون من الرحل وتشير الدراسات الأولية لخزان ستيت أنها تمت في سبعينيات القرن الماضي بواسطة شركة فرنسية حيث حددت موقع السد في منطقة الروميله على نهر عطبرة «والبردانه» على نهر ستيت في كل من ولايتي القضارفوكسلا، وتم إدراج المشروع ضمن الاستراتيجية القومية الشاملة بإضافة مليون فدان أراضي صالحة للزراعة، وتوليد «150» ميقا واط كهرباء إضافة إلى تخزين المياه، والإسهام في تنمية المنطقة إقتصادياً واجتماعياً، وزادت الحاجة اليه بعد تراكم الطمي على خزان خشم القربة حيث أصبحت سعته التخزينية البالغة «1.6» مليار أقل من 40% بينما أشارت الدراسات الى عدم جدواها في حال استمرار الحال دون قيام سد ستيت، ومما دفع العمل التوصيات الدائمة في مؤتمرات تنمية شرق السودان والدعوة لقيام ستيت، وتفاعل مواطني ولايتي القضارفوكسلا بقيام السد، الدراسات قديمة وكانت تقوم على سدين أعالي نهر عطبرة وستيت حيث يتم تنفيذ الأول ويأتي الثاني بعد ثلاثين عاماً حسب الدراسة لعدم توافر التمويل وصعوبة الحصول عليه، وفي السياق شرعت وحدة تنفيذ السدود في تنفيذ الخطوات الأولى لبداية العمل في سد أعالي نهر عطبرة، بإنطلاقة عمليات الحصر وإحصاء السكان والأراضي والمزروعات بالمنطقة المتأثرة، والتي جاءت استجابة لمطالب حكومتي كسلاوالقضارف حيث الدراسات الفنية عبر شركة « سوقريا» الفرنسية في السبعينيات قد اكتملت الدراسات الفنية والبيئية والاجتماعية الخاصة بالمشروع حيث حدد موقع السد في منطقتي الروميل والبروان في كل من ولايتي كسلاوالقضارف، بأن يكون السد على بحيرتين الأولى على نهر ستيت والأخرى على نهر عطبرة، اضافة الى مطالبات من بعض المواطنين بضرورة إنفاذ هذا المشروع، تم القيام بعدة خطوات للتنفيذ بالتنسيق مع الولايتين، تمخضت عن إعلان الإحصاء الذي يقوم به الجهاز المركزي للإحصاء وبمشاركة عدة جهات على رأسها وزارة التخطيط العمراني ووزارة الري لولايتي كسلاوالقضارف. إن سد ستيت يزيد الرقعة الزراعية إضافة الى توليد الكهرباء وتوفير مياه للزراعة والشرب، ويقلل من الفيضانات التي تحدث أضراراً بالمنطقة، بجانب دوره في البنيات التحتية والأساسية وإحداثه لنقلة نوعية للأهالي وإسهامهم في المراعي، وفي الخطة إنشاء مصانع ذات صلة بالإنتاج الحيواني من ألبان ولحوم حتى تحدث التحول الاجتماعي في المنطقة من رعوي الى زراعي، كيف لا والعالم الآن يتجه الى الزراعة المختلطة بما فيها الحيوان، و سيكون السد خير معين لأهالي المنطقة واستقرارهم والاستفادة القصوى من هذه المشاريع المصاحبة، يذكر أن سد ستيت تتأثر به «52» قرية تضم حوالى «109900» أسرة تأثيراً كلياً، وبعد الاستئناف ونشر الكشوفات يتم اختيار مواقع إعادة التوطين وبناء المساكن وإنشاء المشاريع الزراعية والخدمات للمتأثرين. عاش شرق السودان في مطلع ثمانينيات القرن الماضي تخلفاً ملحوظاً وتجاهلاً عن عمد من السلطات المركزية، وتآمرت الطبيعة القاسية وكأنها على موعد لإفقار الشرق، لا سيما ان السنوات الفائتة على مدار عقدين من الزمان لم يكن الحصاد إلا دائباً فلم يغاث الناس حيناً من الدهر ولم تبتسم فيها مُزن السماء إلا لماماً وأجدبت الأرض ونفقت الثروة الحيوانية، وغدا الشرق أفقر أصقاع السودان القصية منه والدانية، تهللت البشريات تترى لأهل الشرق عندما تناهى الى مسامعهم عزم ومضاء وزارة الري ووحدة تنفيذ السدود مدعومة بقرار جاد من مجلس الوزراء وتوصية مباشرة من رئيس الجمهورية المشير البشير اكد فيه ضرورة وأهمية قيام هذا المشروع إرساءً لتنمية وانطلاقة حقيقية في مضمار التقدم الاقتصادي الاستراتيجي، مستصحبين معهم تجربة سد مروي العملاق الذي أضفى على الصحارى القاحلة روحاً وأحالها الى رياض غناء، ومروج فضلاً عن التوليد الكهربائي وإقامة مشروعات للبنى التحتية، مما يلزمنا أن نحيي وحدة تنفيذ السدود ممثلة في شخص المهندس أسامة عبدالله وأركان حربه، ونأمل ان يستمر جهدهم الماثل للعيان الذي هو عصي عن التجاهل والتغاضي لتقديمهم نموذجاً ملموسماً ومعيشاً على أرض الواقع. متجاوزين كل الشعارات البراقة التي كانت تطلق في السابق من أفواه الساسة التحية لهم. والى مزيد من إنجازات أخرى تنتظرهم في ستيت وأعالي نهر عطبرة. وفيه لا تقل الملحمة بأي حال من الأحوال عن سد مروي فإلى هناك من اجل مستقبل واعد ومشرق وغد أفضل وكلنا في الهم شرق. كثير من الدول التي تقع في محيطنا الإقليمي إبان المراحل التاريخية الماضية استطاعت ان توظف مواردها وكرست الجهد فبرز نماؤها في مجالات اقتصادية عدة، تاركة في هذا الصدد بصمات تذكر بها ابان لحظات الاستنطاق، نريد أن نحذو حذوها دون ضوضاء أو جلبة إعلامية. السودان بحجمه وموقعه الجغرافي وإرثه التاريخي وتنوعه البشري والمناخي يصلح ان يلعب دوراً رائداً ويكون سلة غذاء العرب والأفارقة، غداة قيام خزان ستيت وأعالي نهر عطبرة ويمكن ان نجمل ميزات المشروع في الآتي:- ٭ السهول المنبسطة في أراضي البطانة وشرق الأتبراوي، التي تمتاز بالتربة والمناخ الجيد وتصلح لزراعة الكثير من المحاصيل الغذائية والنقدية، لا سيما قرب المنطقة من العاصمة القومية للبلاد وشبكة الطرق البرية الرابطة لدول الجوار الاقليمي والطريق القومي الى ميناء بورتسودان الرئيسي، خزان ستيت يمكن ان يكون الوعد الحق لتجسيد التعاون العربي الافريقي في مجالات استثمارية يعود ريعها خيراً وبركة على كل أصقاع السودان والعالم أجمع، خيراً عميماً خصوصاً في ظل مشكلة النقص في الغذاء العالمي الذي اكتوى بناره الجميع، وعلى أعتاب الألفية الثالثة وإطلالة هذا المشروع «خزان ستيت» نعتقد بأننا سائرون نحو التقدم والعيش الرغيد الى ما لا نهاية ونستطيع القول بأن زمان المجاعات والحروب الهمجية والعصبية المقيتة ورفع شعار التهميش الفارغ من كل محتوى، الذي أصبح يستغل من قبل أصحاب النفوس المريضة قد ولى وذهب من غير رجعة. وما ينبغي لنا إلا حشد طاقات أهل الولاياتالشرقية وتصويبها لميدان البناء والإعمار، بداية بالعمل الزراعي بغية تحويل الأصقاع البائسة الى مروج خضراء، باستغلال الخيرات التي يزخر بها هذا الجزء الحبيب من أرض الوطن، دعماً لجهود محاربة الفقر الذي ضرب بأطنابه وأنشب أظافره القذرة في كل وادٍ وربع ومسيل ماء، وتحقيقاً للحياة الكريمة والرفاهية الاجتماعية والاقتصادية، ولا غرو في ذلك لأنها تأتي متسقة مع توجه الدولة مصحوبة بخطط منهجية تراعي ظروف المواطنة وعدالة التوزيع للثروة، علينا أن ندرك انها الدعائم الأساسية لخطط التنمية المتوازنة وأن المواطن في هذه الأنحاء بعدئذ لابد أن يصبح مرآة عاكسة لاقتصاد بلده فيمسح خط الفقر بنفسه، ويطفيء ديون ذوي الدخل المحدود نسبة لما حدث لهم من إفقار وإعسار وسجون ظلت تطبق عليهم ظلامها البهيم وبعدها سوف يغدو الشرق نقطة إرتكار استراتيجي. * باحث ومهتم بقضايا شرق السودان