تعودنا على ألا يصدقنا البعض القول أو الفعل، ورغم علمنا التام بكل الحقائق إلا أننا نقبل الخطأ ونسكت عليه دون السعي لتصويبه، وذلك خطأ فينا. وتعودنا على ان يعدنا أي مسؤول بفعل ما فلا ينجزه ولا يتقدم بعذره، فلا نسأله ولا نيأس من أن نستمع لوعوده القادمة. ففي دول العالم المتقدم، يعتبر الصدق في القول والفعل، المعيار الأهم لتحديد قيمة الإنسان أي إنسان، فما بالك بمن يتقدم منهم لقيادة الآخرين، وفى اى موقع كان. ولعلَّ من تابع مواسم الانتخابات بتلك الدول، قد شاهد وسمع مدى الاهتمام بالمصداقية، لكل من يأنس في نفسه الكفاءة للتقدم من أجل نيل ثقة مواطنيه. وتمتد تلك المصداقية من مستوى تعريف الشخص بنفسه، حتى تشمل مدى التزامه بالقيام بواجبات المواطنة الصالحة، التي تفرض على كل مواطن الإسراع بالإيفاء بمتطلباتها وبكل الصدق والأمانة وفى حينها، وسمعنا عن عظم الجرائم التي تلحق بمن اتهموا بتهربهم من تسديد ما عليهم من ضرائب، حتى بعد ان وصلوا إلى قمة المسؤولية، التي لم تشفع لهم أو تعمل على حمايتهم من التشهير بهم، حتى قيامهم بإصلاح ذلك الخطأ الكبير. يحدث ذلك هنالك بينما الكثير من مواطنينا، لا يهتم بمثل هذه الجوانب، وربما يتم الثناء على الذين يجيدون التهرب من القيام بواجبهم، وكيفية تفادي تبعاته. وما دمنا بصدد استقبال مرحلة جديدة من عمر السودان، ستحققها الانتخابات القادمة، فلماذا لا يتم وضع أسس ومعايير جديدة لاختيار من سيقود في تلك المرحلة. ولا أظننا في حاجة إلى أكثر من مطالبته بالصدق والأمانة في كل قول وفعل، ومنذ الآن. وقبل أن نذهب لما نريد من المرشح اليوم، لا بد من السؤال عن موقف الناخب اليوم باعتباره الوحيد الذي سيحدد مصير ذلك المرشح. فقد أخذ موعد بداية العملية الانتخابية في الاقتراب وبسرعة مذهلة، ولا زال المواطن جاهلا للكيفية التي سيمارس بها عملية الاقتراع، حتى يتمكن من الأداء الصحيح لها وبالسهولة التي تعود عليها سابقا. ورغم أن عملية الاقتراع هي الأهم بالنسبة للانتخابات، إلا أننا لا نشاهد اهتماما بها أو التفاتا إليها، لا من جانب المفوضية، التي كثرت سكاكينها أخيرا، والتي وعدت في وقت سابق بأنها ستشرع في إجلاء حقائقها وتفكيك طلاسمها للمواطنين، ولم تفعل حتى الآن، ولا من جانب الأحزاب المختلفة صاحبة المصلحة الحقيقية في عملية الاقتراع، ونخشى أن تكون هي الأخرى جاهلة لطريقة ممارستها. فقد انفردت الانتخابات القادمة بدرجة ومستوى من التعقيدات لم نسمع بها أو نشاهدها لا في السودان بلد العجائب، ولا في غيره من دول العالم الأخرى. فقد تعددت المواقع التي يترشح بها المواطن، وتعدد المرشحون بكل موقع، فأصبح الاقتراع لتلك الجموع من المرشحين عملية مركبة وعصية على الفهم، حتى على الفاهمين. ثم جاءت قصة الرموز التي تم توزيعها على المرشحين، ولا ندرى كيف تمكنت المفوضية من الحصول على كل تلك الرموز التي اختصت بها المرشحين بدءاً بالشجرة ونهاية بالشاكوش، ومن ثم تتوقع ان يتذكر المواطن أيها سيختار للاقتراع له. فماذا لو سمعت المفوضية الرأي الذي نادى بتجزئة العملية الانتخابية، بحيث يتم الاقتراع لرئاسة الجمهورية والولاة أولاً، ومن بعد يتم الاقتراع على المستويات الأخرى، الأمر الذي يؤدى إلى تبسيط عملية الاقتراع، ويقلل من خسائرها. وبالطبع رفض الاقتراح، ومن ثم ظل الجهل بكيفية الاقتراع قائما.. وأخشى أن تكون عملية التعقيد هذه وسيلة أخرى من وسائل تحقيق الأهداف الانتخابية، بحيث يتمكن البعض من تنوير جماهيره بالمطلوب فعله وفى سرية تامة، بينما يظل الآخر في انتظار المعرفة من المفوضية أو غيرها، حتى تداهمه صافرة البداية للمنافسة، فيسقط قبل أن يبدأ في المشاركة فيها. أحزاب المعارضة لا زالت مشغولة بمناطحة طواحين الهواء، بعضها يطالب بتأجيل موعد الانتخابات، بعد ان قطع البعض الآخر كل أشواط الإعداد للفوز بها، ووقف في انتظار اليوم الذي ستعلن فيه نتائجها، لذبح الذبائح ودق الطبول والتهليل والتكبير، وبعضها عاد ليطالب بمقاطعتها بعد أن شدد في وقت سابق على خوضها طولا وعرضا، في ذات الوقت الذي أكمل فيه البعض الآخر مراحل الإعداد والاستعداد ومن زمااان، ولم يبق له إلا الجلوس لامتحانها الذي حفظ مقرراته عن ظهر قلب، ومن ثم ضمن النجاح فيه وبدرجة امتياز. وبعض الأحزاب مازالت تقف في محطة الحكومة القومية، التي ظل عرضها مستمرا منذ التوقيع على اتفاقية السلام، ولم تجد أدنى درجة من الاهتمام، أو مجرد قبول مناقشة فكرتها، قبل أن يتم رفضها، ورغم ذلك يظل عرضها مستمرا. وأحزاب المعارضة أصابت المواطن بدوار سياسي من كثرة ما تعلن وتبطن وما توعد وتخلف، وما تتفق عليه صباحا وتختلف حوله ليلا. وآخر صيحاتها، ما جاء بالصحف من اتفاق الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل مع تجمع جوبا الذي رفضه بالأمس القريب. هذه الأحزاب، من أولها لآخرها، آخر من يخطر ببالها المواطن الذي تأمل في أن يعيدها إلى السلطة ودون أن تشركه في ما تتخذ من قرارات في شأن تلك السلطة وكيفية الوصول إليها. وأحزاب حكومة الوحدة الوطنية، التي تمثل أحزاب المعارضة أو غالبيتها، وبعد أن قبلت بفتات السلطة التي حددتها لها اتفاقية نيفاشا، ومن ثم حققت بقبولها رغبة المؤتمر الوطني، في تكوين حكومة، ينفرد فيها بالسلطة، ويطلق عليها صفة حكومة وحدة وطنية.. هذه الأحزاب أعلنت أخيرا عن تهديدها للمؤتمر الوطني، الذي تخلى عنها، بعد أن حقق أغراضه من مشاركتها البائسة في الحكم، ويبدو أن المؤتمر الوطني قد أخلف وعداً قطعه لها، وكان ذلك الوعد عبارة عن صفقة، يقوم بموجبها بمدها بالمال الذي يعينها على خوض الانتخابات، شريطة أن تقف تلك الأحزاب المدعومة، خلف مرشحه لرئاسة الجمهورية، ومرشحيه لمنصب الولاة. ولا ندرى إن كان المؤتمر الوطني قد أوفى بوعده بعد ذلك التهديد غير المحدد، أم إن تلك الأحزاب قد تنازلت عن مطلبها، لأنها، اى الأحزاب، ومنذ إعلانها الأول لزمت الصمت وكأن شيئا لم يكن؟ ومن حق المواطن أن يسأل عن هذه الصفقة التي يبدو إنها أبرمت من خلف ظهره، أولا لماذا لم تعلنها هذه الأحزاب قبل ان يخذلها المؤتمر الوطني برفضه للإيفاء بوعده؟ ثم سؤال آخر، عن المصادر التي ستمد المؤتمر الوطني بالأموال التي سيقدمها لتلك الأحزاب لتخوض بها الانتخابات، ولتحقق له أهدافه، وإن كانت من حر ماله الذي حصده، كما يقول من عضويته القادرة اقتصاديا، أم من أموال المواطنين الذين حصدهم الفقر؟ ثم لماذا لا يدعم المؤتمر الوطني الأحزاب الأخرى، ودون قيد أو شرط، وكأنه البنك الدولي، خاصة الأحزاب التي صادر أموالها واستولى على جميع ممتلكاتها، وبلا وجه حق. وعلى الأخص حزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، الذي بحَّ صوته من كثرة المطالبة برد حقوقه المصادرة؟ والمؤتمر الوطني لا يرحم ولا يسمح برحمة الله أن تصل لعباده، فهو ممسك بكل مفاتيح خزائن الدولة ليتصرف فيها وفق ما يرى. فأصبح يمنح ويمنع بمعياره الخاص، وبما أن أحزاب المعارضة خارج إطار المنح، فلم يكتفِ بمنعها ولكنه يعمل على ان يوصد كل باب يمكن أن يأتيها برحمة. فما دام الوقوف أمام السفارات يعتبر عيبا بمعيار قياداته، فلماذا لا يستر ذلك العيب، على الأقل برد الحقوق المصادرة بلا وجه حق إلى أهلها؟ نعود إلى المرشحين الذين يجهل المواطن الكثير عنهم بما لا يمكنه من المفاضلة العادلة بينهم والآخرين. فلماذا لا تتوفر السيرة الذاتية لكل مرشح، خاصة مرشحي رئاسة الجمهورية ومناصب الولاة؟ ليس ذلك فحسب، بل لا بد من عرض مؤهلاتهم العلمية أيا كان مستواها، بجانب خبراتهم العملية، شريطة أن يتم ذلك بذات الصيغة المطلوبة ممن يتقدمون لشغل المواقع المختلفة بالخدمة المدنية أو غيرها، مما يتطلب إثبات صحة ما يتقدمون به من درجات علمية بالذات، حيث تتم المطالبة بتقديمها ومن مصادرها الحقيقية. وكذا بالنسبة للخبرات العملية التي تثبتها الجهات التي تمت فيها. وأظنكم تابعتم قضية المتهم في موضوع النفايات الالكترونية، ومدى خطورة الإدعاء العلمي على المواطنين. لذلك لا بد من التفريق بين ما هو حقيقة وما هو زائف، خاصة بعد أن تشابه على المواطن السوداني البقر، فما عاد يميز بين الأصل والتقليد. وهذه المطالبة ليست بدعة، فهي معمول بها بكل الدول المتقدمة، التي يحق للإعلام فيها أن يبحث ويستقصى عن اى أمر يخص مرشحا ما، ليصل إلى قلب الحقيقة متى انتابه شك فيها. وبالطبع لا يمكن بتلك البلدان أن يجرؤ أي مرشح لأي موقع كان على أن يدعى ما ليس من حقه، لعلمه بأن وسائل الإعلام قادرة على الوصول إلى الحقيقة وبأيسر وأسرع ما يكون. وبما أن الانتخابات هي عملية مفاضلة بين المرشحين، تصبح نزاهة المنافسة فيها تقوم على صحة ونزاهة الدعاية التي يقوم بها كل منافس لنفسه. حيث يصبح من يدعى ما ليس حقه، مزورا للانتخاب، لأنه رفع من قدر نفسه بلا حق وعلى حساب الآخرين. فلماذا لا تعمل هذه الانتخابات على البدء في تربية المواطن على الصدق والابتعاد عن الادعاء، ولماذا لا نقول لمن يخطئ أخطأت وفى وجهه، بدلا من وراء ظهره؟ ثم لماذا لا تسعى وسائل الإعلام لتصحيح الأخطاء التي تصدر عن المرشحين، مهما كانت درجتها ومستواها، حتى يتوقف رمى الكلام على عواهنه؟ لقد كتب احد الصحافيين مقترحا بأن يعلن المرشحون لرئاسة الجمهورية عن حالتهم الصحية الراهنة، وبرر تلك المطالبة بارتباط صحة المرشح بمسيرة حكمه، التي تتأثر كثيرا بسلامة أو اعتلال صحته. ولنا في الانتخابات الأميركية خير مثال لمدى الاهتمام الذي يمنحه الإعلام لصحة المرشحين، ومدى حرص أولئك المرشحين على الكشف عن أوضاعهم الصحية وما يطرأ عليها من جديد، وبكل الدقة والشفافية، حتى الأمراض التي ينظر إليها المواطن السوداني، وكأنما هي عيب يجب إخفاؤه، كأمراض السرطان مثلا، فالمصاب به من المرشحين هنالك يظل يخبر المواطن بكل جديد في حالة تقدم علاجه، ودون أية لولوة، أو مداراة. وإن فات الوقت على تحقيق ذلك الاقتراح فإن هنالك اقتراحا آخر لا يقل عنه أهمية، بأن يُطالب كل مرشحي رئاسة الجمهورية والولاة، بأن يعلنوا عن ممتلكاتهم المختلفة حاليا، ولعل المفوضية قد شرعت في ذلك، حيث يمكن هذا الأمر من متابعة ما يستجد في أحوالهم الاقتصادية بعد اعتلائهم كراسي الحكم، وفي أي من مستوياته، ولعلَّ في ذلك الإجراء ما يقلل من حدة الاعتداء على المال العام، لأن المسؤول الذي يبتعد عن الفساد بأي من أشكاله، لن يسمح لغيره بأن يفعل ذلك. نقطة أخيرة: فقد جاء بالصحف أن وزير الطاقة والتعدين أعلن عن تخفيض في تعرفة الكهرباء يصل إلى النصف، بجانب تخفيض أقساط عدادات الكهرباء إلى نصف القيمة أيضا، على أن يبدأ التخفيض من أول مارس من هذا العام.. «انتهت البشارة».. أولاً نحمد الله أن هيأ لنا انتخابات جعلت الحكومة تهتم بشأن المواطن للدرجة التي جعلتها تعلن عن تخفيض، بينما تعود المواطن على إعلانات الزيادة دائما؟ ويبقى السؤال عن شفافية هذا القرار الذي صبرت عليه الحكومة منذ افتتاح سد مرى لتعلن عن تنفيذه في الوقت المناسب، قرب موعد الانتخابات؟ ويبدو أن هنالك مفاجآت أخرى قادمة لصالح المواطن، من التمتع بكهرباء رخيصة، إلى الحصول على مياه شرب نقية، وبالمناسبة اكتب الآن ومياه الشرب غير النقية «قاطعة» من منطقتنا منذ الأمس، والمؤتمر الوطني لم يكتف بتخفيض تعرفة الكهرباء، بل جعل الكهرباء ضمن الدعاية الانتخابية لمرشحيه الذين يعلنون بلا حياء بأنهم سيضيئون مئات القرى في هذه الأيام، ونتمنى أن يتذكر المواطن نصيحة الإمام الصادق المهدي الذي طالبه بأن «يأكل توره ويدي زوله». ونطلب من الله أن يتم تأجيل الانتخابات حتى يستمر خيرها على المواطنين.. آمين.