٭ أستاذ الأجيال الراحل حسن نجيله في كتابه ذكرياتي في البادية.. وفي حكاياته في بادية الكبابيش وضع نهجاً لأدب الذكريات في السودان حملة حيوية وحركة فترة تاريخية معينة في ذهن وتجربة شاب يموج وجدانه بمشاعر وطنية وجمالية وفنية جياشة.. وفي فصل جعل عنوانه «مور طاغية كتم.. جاء فيه الآتي: ٭ وذات يوم وأنا ألقي دروساً تحت ظل شجرة باسقة وتلامذتي يلتفون حولي وقد جعلوا من تلك الرمال الذهبية مقاعد لهم فرحين مقبلين، واتخذت مكاني بينهم على مقعد صغير واتكأت السبورة على جذع شجرة.. ظهر من خلال الأشجار شخص يتجه نحونا متئداً.. وصاح تلامذتي ينبهونني.. المفتش المفتش والتفت حيث أشاروا فرأيت أحد الإداريين الانجليز يسير نحونا وأدهشني أن أراه يحمل عصا غيظة مما يسميه البدويون وعامة الناس (بالقرجة) ولم أعجب لظهوره بيننا فجأة في ذلك الوادي فقد كان في أم قوزين في تلك الآونة اجتماع قبلي حضره مفتشون من دارفور وكردفان وبعض النظار والشراتي كما هي العادة في عقد مثل هذه المؤتمرات القبلية سنوياً في مكان ما لحل ما ينجم من مشاكل قبلية خلال العام لتقريب شقة الخلافات التي يسببها النزاع حول المراعي والماء، وهي المشكلة الأساسية الخالدة التي تتجدد بصور مختلفة ولا تمس الجوهر بشيء المرعى والماء. ٭ واقترب الإداري البريطاني مني وحيا بلسان عربي مبين ورددنا تحيته بعد أن هز يدي عدة مرات في حرارة على غير عادة أهله ثم حيا التلاميذ وحداً واحداً سائلاً كلاً منه عن اسمه واسم أبيه فتعرف على أكثرهم عن طريق آبائهم ثم التفت إليَّ وقدم نفسه.. «مور مفتش كتم». ٭ كنا في نهاية يومنا الدراسي والتلاميذ يتلون عليَّ بعض سور القرآن للمراجعة عندما جاءنا المستر مور هذا ،وقد سكت التلاميذ عن التلاوة عندما وصل، وبعد أن تم التعارف وتبادلنا التحايا وسألنا ماذا تدرسون الآن؟. قلت: بعض سور القرآن.. قال أي السور؟. عجبت ماذا يفيد من هذا السؤال وما مبلغ علمه بالقرآن، وقد لحظت ان لغته عربية سليمة، حاول أن يدس خلالها بعض الكلمات الفصيحة ليؤكد لنا مدى المامه باللغة الفصحى، قلت: إنا نقرأ سورة الفجر. وفاجأني بأن أكمل الآيات قائلاً: والفجر وليال عشر والشفع والوتر هكذا نطقها في غير عجمة ولعله لحظ دهشتي فقد أخذت أنظر إليه في كثير من الاستغراب فضحك وقال: إني أحفظ بعض سور القرآن. ٭ وانصرف التلاميذ بعدها ودعاني لأذهب معه إلى خيمته.. وبلغناها وأخذ يعتذر إليَّ قائلاً بأنه لم يعتد أن يصحب معه طباخاً في مثل هذه الرحلات وأنه يأكل أي طعام يقدم له في طوافه، وقال اني استطيب العصيدة بالملاح . وفي الواقع ان كل طعام البدويين يتكون أساساً من عصيدة الدخن فهم لا يعرفون هذه الكسرة التي نأكلها وليس بين نسائهم من تصنعها بل لا يوجد لديهم أدوات صنعها اطلاقاً، فالوجبة عندهم عصيدة الدخن بادام من الويكة المطبوخة بقديد من لحم الصيد ، وهذا أطيب طعامهم وقد يكون الادام حيناً من اللبن حليباً أو رائباً أو ماء عليه ملح وسمن دون أن يطبخ. أواصل مع تحياتي وشكري