تنويه هام من السفارة السودانية في القاهرة اليوم للمقيمين بمصر    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    نتنياهو يتهم مصر باحتجاز سكان غزة "رهائن" برفضها التعاون    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    شاهد بالصورة والفيديو.. في أول ظهور لها.. مطربة سودانية صاعدة تغني في أحد "الكافيهات" بالقاهرة وتصرخ أثناء وصلتها الغنائية (وب علي) وساخرون: (أربطوا الحزام قونة جديدة فاكة العرش)    الدفعة الثانية من "رأس الحكمة".. مصر تتسلم 14 مليار دولار    قطر تستضيف بطولة كأس العرب للدورات الثلاثة القادمة    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني في أوروبا يهدي فتاة حسناء فائقة الجمال "وردة" كتب عليها عبارات غزل رومانسية والحسناء تتجاوب معه بلقطة "سيلفي" وساخرون: (الجنقو مسامير الأرض)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    صندل: الحرب بين الشعب السوداني الثائر، والمنتفض دوماً، وميليشيات المؤتمر الوطني، وجيش الفلول    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نخلة على الجدول الذي فاض أنهاراً من السنا

الطبيعة في شمال السودان قاسية، صحراء ممتدة الأطراف، تعوي ذئابها ليلاً، وتفح أفاعيها كل الأوقات، يسير السراب فوق أديمها يسابق نفسه، نهارها حار لافح وليلها بارد قارس خاصة في الشتاء، الحياة فيها على ضفتي النيل العظيم، فقط إنه ثعبان عجوز سقطت أنيابه وتدل جلده آلاف المرات، يسير الهوينى شمالاً متئد الخطى، غير عجلان وليس به شفقة أو عجل، شريط سميك من الخضرة الداكنة تتخلله أشجار نخل باسقات، تلحت سيقانها وشابت النواصي وما شابت الهامات، تغرس انيابها واضراسها داخل تربة سوداء اللون غرنية التكوين، جاءت من خيران الصعيد وتلال المكادا.
تشكل غابات بتأرجح سعفها كلما هبت عليها السواقي او رياح الشمال فيسقط التمر رطباً جنياً، احواض البرسيم، القمح او الفول السوداني في ذينك الشريطين شرق النيل او غربه، لا يتعدى عرضها الإثنين او الثلاثة أفدنة، يغمر ارضها النيل سنوياً فينزل منها برفق، يأتي صاحب الأرض، يفلحها عند الصباح وفي النهار، وعندما يبلغ عليه النصب أقصاه يلجأ إلى ظل شجرة تمر وأرفة الظل، يجلس تحتها، يفك إسار ذلك الكيس «مخلاة» ويشرع في تناول فطوره، لقمة أو شرائح قراصة قمح يجلس قليلاً ثم ينهض، يتقدم نحو النيل، يخوض في مائه حتى منتصف ساقه ثم يغرف الماء براحتيه، ويشرب ماء قراحاً، ينتصب، يضع راحة يده اليمنى على بطنه العارية، يتجشا مرة واخرى، ثم يقفل راجعاً، لمواصلة عمله.
وقف محجوب فجأة بالقرب من نخلة نابتة على أحد الجداول، لماذا؟ لا يدري، رفع رأسه واخذ يتأملها، كانت تحمل سبائطاً من أجود انواع بلح المحل، فجأة سمع نهيق حمار، رفع رأسه ونظر إلى الجهة التي جاء منها صوت النهيق.
إنه وداعة، ذلك التاجر الذي يعرفه محجوب جيداً، كان تاجرا موسراً، يتاجر في المحاصيل وخاصة التمر، جاء وداعة إلى محجوب لا يتفقد أحواله او يسأله عن أهله وصغاره، جاء ليشتري منه تلك الشجرة التي يقف محجوب حيالها.
٭ سلام عليك آ محجوب، قال له وداعة وقد وصله،
٭ وعليك السلام، رد محجوب.
وداعة على حماره الحمامي حمار عالي، ضخم الجثة، سعاه وداعة لأنه قوي، يستطيع المشي لمسافات طويلة، يقوى السفر والمشاوير بين القرى والحلآل، أما وداعة فهو رجل ربعة أسود اللون، ممتلئ الجسم تبدو عليه دلائل النعمة والدعة، يرتدي جلباباً أبيضاً فضفاضاً يضع عمامة بيضاء ضخمة فوق رأسه الكبير كي ما تقيه حر الصحراء، على وركيه عصا غليظة، و«بنبقة» لقيادة الحمار، قال لمحجوب، وهو على حماره تحت ظل تلك النخلة.
٭ يا زول ما تبيع، هي نخلة ولا مرا؟!
٭ قلنا لك، يفتح الله، رد محجوب،
لم يقتنع وداعة بذلك الرد، صمت قليلاً، كان يفكر، لقد اصر في داخله أن يشتري هذه النخلة، إن الوقت مناسب، وحال محجوب بائسة، إنه فقير معدم والعيد على الأبواب وهو يحتاج إلى مبلغ محترم من المال ليشتري كساوى العيد لصغاره وتوب للزوجة وخروف الأضحية، عيد، حاول وداعة أن يستغل هذا الموقف، لكن بالرغم من هذا الموقف الحرج والحاجة الماسة، رفض محجوب بيع نخلته لوداعة، انها نخلة من أجود أنواع التمر وهي مكتنزة الآن بسبائط البلح،، انها تنمو على شفة جدول هادئ، تشرب من الماء الذي يندلق عبر ذلك الجدول،، انها لا تكلفه شيئاً،، وله عندها ذكريات،
المنطق يحتم على محجوب بيع النخلة،، لكنه رفض ما زال وداعة يكرر الرجاء ويعيد الطلب،، وما زال محجوب يرفض، لكنه لماذا يرفض؟
٭ يا زول ما قلنا لك يفتح الله، يعني يفتح الله عليك وعلينا، قال محجوب في هدوء نعم كل الاوباب موصدة، وهو فقير، يحتاج للمليم الواحد، لكن العشم فوق الله هو كفيل به وباولاده «والله ما شق حنكاً ضيعو» رفض محجوب لأنه يعلم إن الله كفيل به وأنه سينقذه من هذه الحالة ليست دريهمات وداعة هي التي ستحل مشكلته.
الحمار يرفع حافراً ويضع حافرا انه ينوء بحمل وداعة، انه تعب، الحمل عليه ثقيل، وداعة ضخم الجثة ابجر البطن مترهل الأطراف، لقد طالت المدة وليس هنالك بريق أمل في البيع لقد رفض محجوب بتاتاً أن يبيع النخلة لوداعة.
بينما هما على هذا المشهد، والصمت المطبق جاء طفل من القرية يجري، وقف بالقرب من محجوب وهو يلهث قال:
٭ جاء الحسين ود عاشة بت كمير من مصر، و..و.. قال قابل عثمان ولدك هناك.. و..و..وعثمان اداهو.. اداهو.. ج.. جواب..ومع الجواب حاجات كتار.. وديناها للزينة.
٭ فيهو ثلاثين جنيه وفيهو سلام كتير، ليك قال الصبي.
٭ الحمد لله، الحمد لله، قال محجوب، ثم أردف وهو يبتعد من وقفته تلك.
يا خوي يفتح الله.
إنصرف وداعة حزيناً، مكسوف الخاطر، يحث حماره المشي والابتعاد.
هذا مضمون قصة «نخلة على الجدول» للاستاذ الطيب صالح، كانت بمثابة البنت البكر التي انجبها قبل أن يتزوج، قال أنه كتبها بدون قصد، وهي قصة بسيطة ولما كانت هي اول إنتاج له «3591م» رماها وسط الأوراق غير آبه بها إلى أن قيض لها اصابع صديقه المستشرق دينس جونسون ديفز، قرأها ديفز أثنى عليها وابدى له انه كاتب مرموق، يمكنه، أن واصل، ان يأتي بالعجب العجاب وقد كان.
تعتبر قصة نخلة على الجدول، العمل الادبي الذي تتقمصه هوية الطيب صالح الأدبية.
قصة نخلة على الجدول بساطة وفيها تشكيل بديع يحتوي على لوحات فنية يتجسد فيها جمال الريف الشمالي بصبوغه بالوان هادئة تتراقص أمام القارئ كما تتدافع أمواج النيل الدقيقة وهي تلثم صفحة الشاطئ، هذه البساطة يقول عنها «العقاد» إنها تشبع حاسة الكمال والإتقان التي هي جماع روح الفنون، والبساطة هي لب لباب الجمال «كتاب الهلال رواد الفن التشكيلي صفحة 301».
في قصة نخلة على الجدول، لا تظهر ايدلوجية الطيب صالح السياسية مباشرة بل يعرضها مغلفة كأنه يخشى شيئاً، في ذلك الوقت 3591م كان الصراع الفكري الفلسفي مشتعل النار وامتد اوارها حتى شمال المشرق الاوسط والشمال الافريقي، لقد إحتد الصراع بين المعسكرين ويكاد ان يكون العالم كله وبأسره قد انقسم بين الرأسمالية والاشتراكية، وعشق رهط كبير من شبابنا أفكار ماركس ولينين وشتالين، جاء عبد الخالق من مصر يبشر بالاشتراكية والديمقراطية، وتحولق حوله عدداً لا بأس به من الشباب المثقف، كانوا يتدفقون حياة وذكاء ونشاطاً، آلوا على أنفسهم طرد المستعمر وبسط الاشتراكية والديمقراطية في ربوع المليون ميل مربع من بلاد السودان، في قصة نخلة على الجدول يدين الطيب صالح التكبر، والخيلاء، الأناة، حب النفس، ظلم الآخرين، ويمقت الجشع والأنفة.
صور الطيب صالح ذلك التاجر «برجوازية» بل رأسمالية متعفنة، تحب جمع المال واحتواش كل غالٍ ورخيص، كما صور لنا الطيب صالح الرجل المزارع الطيب البسيط الذي يكد ويفلح أرضه ليحصل من عرقه، على قوت اهله، ويطمع في توفير بعض الملاليم التي تدخل الفرحة وطبع البسمة على شفاه اولاده وزوجه وربما دفع جزءً من الدين الذي أثقل كاهله،
كان قلب التاجر مملوء بالشر، الأنانية، والحقد، وكان قلب المزارع نظيفاً مملوءاً بالحب والخير والوداعة والطيبة والبساطة والقنوع بما قسم الله له من رزق، كان قلبه «عامر بالإيمان»، كان موقناً أن الله لن يخزله وأنه منتصر لا محالة، كأننا به يرد في سره:
ضاقت ولما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت اظنها لا تفرج
الأستاذ الطيب صالح، مسلم متدين حتى النخاع، دائماً يأتي بالغريب في قصصه ورواياته لنأخذ مثلاً شخصية الزين، بت مجذوب، مصطفى سعيد، منسي، محجوب في نخلة على الجدول، انه رجل معدم يرتدي سروالاً ممزقاً، عاري الرأس وبقية الجسد، يقف أمام وداعة ووداعة على حمار كأنه المرسيدس الفارهة، وداعة متعالى ومحجوب متواضع منكسر، لعن الله الفقر، كان من الأحرى على محجوب أن بيع تلك النخلة وباي سعر يمنحه له وداعة، إنه في موقف مادي حرج ووقت مادي يحتاج فيه للمليم الواحد ناهيك عن عدد محترم من الجنيهات، ثم لن يحضر تاجر آخر ليعطي محجوب مبلغاً أكبر من المبلغ الذي قاله وداعة.
المنطق يحتم على محجوب أن يبيع النخلة، لكنه يرفض وهو لا يستند على شيء سوف يحدث مستقبلاً، وينقذه من هذه الضائقة المالية، لكنه كان مؤمناً بربه وموقتاً أنه لن يخزله، ستحدث «معجزة»، وتنقذه وقد حصلت.
استخدم الطيب صالح هذا النوع من التعبير القصصي الذي لا تحل عقدة القصة فيه او الرواية الا بمعجزة وقد اشتهر بهذا الأسلوب عدد كبير من كتاب الرواية والقصة، وكان من رواد هذا الأسلوب «وليم شكسبير» الذي كان استاذنا الطيب صالح معجباً به وبادبه.
لمس الأستاذ الطيب صالح الصراع بين «الرأسمالية والإشتراكية» في هذه القصة التي نحن بصددها، لمسة خفيفة، انحاز فيها إلى الاشتراكية، وجعلنا ننفر من الرأسمالية ايما نفور، وطلب منا ان نعطف على محجوب ذلك المزارع البسيط وننحاز إلى جانبه، وننبذ ونسخط على وداعة وفعائله، كتب الطيب صالح هذه القصة، ببساطة، كما يقول مستخدماً الأسلوب الواقعي «الواقعية الخشنة» التي ترتدي «جينز» عمال السكة الحديد( Over- all)،
كان الطيب صالح مفتوناً بالطبيعة وجمالها الساحر، النيل وماؤه الرقراق المسافر دائماً الى الشمال، كان استاذنا دائماً وكثيراً ما يقف على شاطئ النيل الأزرق عند مدينة رفاعة عندما كان يعمل بها مدرسا في مدرسة رفاعة الأهلية الوسطى، نلمحه على البعد، مترتدياً جلباباً ابيضاً ناصعاً نظيفاً، يقف كالطود الشامخ، حاسر الرأس، واضعاً ذراعيه على صدره وهو يتأمل الأصيل وذهبه المذاب على صفحة الأزرق العاتي يستنشق الهواء الطلق والنسيم العليل، يمتع طرفه بكتل الخشب وسعف الجريد الأعشاب يحملها التيار طافية تحت أقدامه، وإذا ما رفع بصره إلى الأفق البعيد، رأى أسراب الطيور الصغيرة وقد ملأت حواصلها ذرة، قمحا وبعض الديدان انها تهاجر شمالً صوب صغارها، فصغارها خمص البطون، وفي الشمال، عند كرمكول، غابات النخيل، التي تقف «كالديدبان» تحرس تلك المياه العذبة ترتوي منها وتطرح بلحاً احمر واصفر سمح اللون وحلو المذاق بأسره حقول القمح والذرة واللوبيا، عروق البطيخ والعجور والشمام، أما قطعان الضأن والماعز، كانت تلهمه ما قاله الحاردلو أو أحمد عوض الكريم وهو على جمله يقطع فيافي البطانة في سدارة من رفاعة إلى الصباغ.
الناس الطيبين والأسره الممتدة وقوة ارتباطها وعشمها في الله أن يحل كل معضلة، يسافر الولد، يتغرب، يذهب إلى القاهرة، وبيروت،ودمشق، واثينا، أو لندن، لكنه لا ينسى أهله، يرسل لهم ما يستطيع من ثياب وملابس وحاجات أحذية ودراهم، انها لا تفي بالغرض لكنها تسد الرمق.
بعد كتابة قصة نخلة على الجدول، اخذ الطيب صالح يقرأ، يحفظ يتمعن في ما قاله الأدباء القدامى والمحدثين، إندفع يقرأ كما يقرأ مصطفى سعيد او الدكتور أحمد الطيب أحمد، ثم آل على نفسه حضور معظم المسرحيات العالمية التي كانت تمثل في مسارح لندن وغيرها من كبار مدن بريطانيا، ان فاتته مشاهدتها، عكف على قراءتها وتحليل اهدافها وفك رموزها، طفح الكيل إذن لا بد له من منفس، انفتح الصنبور وإندفع الماء كأفواه القرب، انبرى يكتب، نعم اخذ يكتب ما يروق له، ما يروق للغربيين، لقد علم ما يستهويهم، لقد كانوا مولعين بآداب الشرق وسحره وفنه وجماله، كذلك كانوا متلهفين على ما يكتب عن افريقيا، سحرها، جمالها فنها، الغامض طلاسمها، طبيعتها لآخاذة، انهارها، تماسيحها، غاباتها، طيورها، وحوشها، ثعابينها، فهودها، نمورها وغولها اسودها، غزلانها، آثارها، قلاعها، صحاريها، واحاتها، محاصيلها، ازهارها، مدنها المدفونة في الرمال والمختبيئة في الأدغال،
كل ما كتبه الطيب صالح كان دعاية للقارة الافريقية مجتمعاتها آدابهم، اخلاقهم عاداتهم، سحناتهم تقاليدهم،
هرعت اوربا إلى رشف ما كتبه الطيب صالح وعندما ترجم إلى اللغات الحية اندفع العالم كله باسره يقرأ له، وعرفوا «السودان» كانت رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» ترفدهم بما يردون من حياة غربية، الوان زاهية اسلوب رائع، زخارف ولوحات تحس في الوانها الدفء والحر المستطاب، مزايا مصقولة، وموسيقى عذبة يخالط الجاز الحانها، أفكار سديدة تحتاج إلى تحليل رصين وفكر عميق ومنطق مقبول،
كل ما كتب استاذنا الطيب صالح من قصة، رواية أو مقال، كان له مدلول معنوي قوي بطابع نفسي وحسي عميق، لم تكن كتاباته «خبط عشواء» لو لامتاع نفسه البشرية قال نزار قباني:
«شعرت بشيء فكونت شيئاً بعفوية دون أن أشعر»
لقد علم الطيب صالح بحسه الأدبي، احتياجات الأمة الغربية والشرقية وبقية دول العالم الثالث ما يروق لها من العمل الأدبي، فطفق يكتب لهم ما يبحثون عنه ووجدوا ضالتهم ففروا اليه ونشطت دور النشر تترجم هذا الفن الرائع الى اللغات الحية «93» لغة تقدمه للقارئ في طبق من ذهب،
عندما كتب سمرست موم روايته« «The rain» اعتبرها الانجليز والاوربيون من ارقى الروايات العالمية التي كتبت استحسنوها ونال اعجابهم، وعندما كتب قراهام قرين رائعته «The heart ofS) matter) حسبها الاوربيون من أمتع الروايات وعندما كتب ايرنست همنغواى مجموعة قصصه،
the snows of kilimanjaro ثلوج كلمنجارو تهافتو عليها اشتروها وقرأوها، ولما كتب اتش جي بريتويت الكاتب الزنجي من مراكيبو روايته To Sir with love واضعاً فيها تجربته التربوية في مدرسة خاصة في شرق لندن تعج بالطلبة الذين لا اخلاق لهم،، ابناء الطبقات الفقيرة الدنيا،، جعل منهم طلبة مثالين ناجحين احبوه رغم اشتعال التفرقة العنصرية في بريطانيا ذلك الوقت، فتحوا له ابوابهم ودعوه إلى حفلات وسهرات في ارقى الأندية والمسارح نعم العالم الغربي يبحث عن الغريب وعن الجديد، حطم مرايا الكلاسيكية ومزق رداء الرومانسية وقذف بالقديم في قاع البحار،
وجد العالم الاوربي ودول العالم الثالث والشرق الأقصى والأدنى، بغيته في روايات الطيب صالح، لقد سبر غور النفس البشرية الاوربية وغيرها من الامم، كتب لهم ولذلك نجح في قصة «نخلة على الجدول» نلمح اتجاه الطيب صالح السياسي، لكنه كان «فجاً» لانه كان صغيرا فهو ابن العشرين وبعدها بقليل، كان يستهويه اليسار المشتعل الاوار آنذاك، ولكنه يميل بثقله إلى «اليمين» لتكوينه الشوشيلي، لقد كان مؤمناً بالله، مسلماً حتى النخاع كما اسلفنا، وهو سليل الركابية حفدة غلام الله ابن عابد الذي اول من بنى خلاوى القرآن ونشر العلم والفكر الاسلامي في ديار الشايقية «مندور المهدي» وعندما كبر ونضج عوده وفكره، عاش حراً، كان شوكة ميزان، يكتب للانسان، للحياة، للجمال، ويكتب كثيراً «للحب» مات ولم يكن شيوعياً او «اخاً مسلماً» عليه رحمة الله في علين،
قال لي مرة احد الساسة «الخبثاء» ان الطيب صالح من المؤمنين بالإشتراكية «الغابية» وهو زميل لبرناردو شو وادم اسميث، لكنه كان لا يدع لهذا المذهب، آمن به وطبقه على نفسه والمح إليه في كثير من رواياته شخوصه، «دونكم أعماله.. انظروا فيها»
خسئت ايها الخبيث ولعنة الله عليك كما لعن عادل الباز مصطفى سعيد.
إن الطيب صالح سوداني، حر مذهب كل حر مذهبه، خلق عيوفاً، رجل سلام ومحبة عاش من أجل السودان ومات من أجل السودان، رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.