٭ في النصف الأول من شهر يناير عام 0991م، رحل احسان عبد القدوس القاص والروائي والصحافي المصري.. وإحسان لم يكن روائيا وقاصا فحسب، وانما كان صحافيا متميزاً ترك بصماته على اصدارت والدته السيدة فاطمة اليوسف التي أسست مجلة «روز اليوسف» و«صباح الخير». ٭ وبالرغم من أن ما كتبه إحسان من قصص وروايات.. شغل الناس واثار قدرا كبيرا من المناقشات الحادة ووجهات النظر المتضاربة والمتباينة.. واتسعت دائرة تلك المناقشات عندما تحولت معظم رواياته الى افلام سينمائية.. «لا أنام»، «الوسادة الخالية»، «والبنات والصيف»، و«أنف وثلاث عيون»، «وسقطت في بحر العسل»، و«العذراء والشعر الأبيض». ٭ إلا أن آراء النقاذ وآراء القراء قد اختلفت حول معالجات إحسان عبد القدوس الروائية والقصصية، واتهمه البعض بالخروج عن اللياقة الاجتماعية واطلقوا على رواياته وقصصه «أدب الفراش» والبعض الآخر كانوا يرون انه عبر ان تمرد اجتماعي على ظروف اجتماعية خطرة مرَّ بها المجتمع المصري بصورة خاصة والمجتمع العربي او الشرقي على وجه العموم. ٭ نساء احسان في اعماله الادبية كن ثائرات على طريقته التي لم ينفرد بها في ذاك الواقع، بل كانت ايضاً هي طريقة نزار قباني الشاعر السوري في اشعاره.. ثوري اريدك أن تثوري.. ٭ نساء احسان ثائرات محترفات.. حائرات.. واعيات بقوتهن وضعفهن.. يعرفن نقاط الضعف عند الرجال الذين يتعاملن معهم.. ويعرفن الحدود التي يسمح بها المجتمع من حولهن.. ولكنهن دائماً ثائرات على هذه الحدود التي لا يفهمنها ولا تفهمنَّ. ٭ ومثلما كانت اتجاهات إحسان الادبية مكان اخذ ورد، كان دوره في مسار الصحافة المصرية أوضح، وفي هذه قال عنه الصحافي صلاح حافظ: «انقذ إحسان «روز اليوسف» عندما وفر لها اقلاما تمتع القراء وشبابا يواكبون العصر ويسبقونه... وتحررا واسع الافق يستوعب كل جديد في عالمنا الذي يتجدد كل يوم.. بل كل ساعة، لكن وهو يفعل هذا انقذ صحف الرسالة جميعا وحرث لها الارض لكي تعيش.. كانت هذه الصحف بلا دفاع امام زحف صحافة الخبر، وكانت تجثم على أنفاسها المقالات المطولة وأساليب التعبير المتخلفة والتحزب الجامد الاحمق والشيخوخة المحافظة والتعصب للرأي الواحد.. والفكر الواحد.. والزعيم الواحد». ٭ فلما جاء إحسان وغير منطق مجلته وروحها واسلوبها، حرث الطريق امام باقي صحف الرأي والرسالة، وصاغ لها نموذجا يمكنها اذا سارت على نهجه أن تستأنف الحياة.. وبفضل هذا النموذج عاد الشباب فعلا لصحافة الرأي والرسالة. ٭ وجد القارئ لاول مرة صحافة رأي لا تجثم على صدره بالمقالات والخطب ولا تتجهم في وجهه، وانما تخاطبه طوال الوقت بمرح واستبشار.. ويلدغ لسانها خصومه دون ان يسيل دمهم، وبدلا من الرأي الواحد تقدم له مائة رأي حر، وبدلا من ان تدعوه في كل عدد الى محاضرة.. تدعوه الى ندوة حية، ثم هي لا تنسى ان تزوده بآخر الاخبار وبكل الأخبار. ٭ فقد ادرك احسان انه لن يثبت امام زحف صحافة الخبر، الا اذا نافسها في بضاعتها، وقدم الى قرائه وجبات اخبارية سخية مثلها، مع التفوق في أساليب العرض الفني لها. ٭ وقد كانت هذه الصيغة التي توصل اليها إحسان عبد القدوس هي المنقذ لباقي صحف الرأي والرسالة في مصر والعالم العربي.. فقد لجأ اليها فيما بعد قادة صحف الرأي والرسالة جميعا، وبفضلها عاشت هذه الصحف جنبا الى جنب مع صحافة الخبر، وواصل كل منها دوره دون ان يزيح الآخر. ٭ فعل هذا إحسان دون أن يقصد، ولم ينتبه الى ان دوره تجاوز حدود «روز اليوسف» الا بعد وقت طويل، وبعد أن كسب المعركة، وبعد ان سمع ذلك من أمثالنا المهتمين بمسيرة التاريخ ورصد حركته.. بل انه حتى بعد أن سمع لم يصدق، واعتبرنا باسلوب دعابته الذي اعتاد عليه مرضى بالتاريخ.. وهواة لصنع العناوين الضخمة بمناسبة وبدون مناسبة وهو له حق.. لانه طوال مسيرته الصحفية كان أديبا يستلهم الفن والذوق، وكان كاتبا ينتمي الى حرية التعبير، ويبني قضية الإنسان. ولم تكن قضيته ابدا ترويج صحيفة او محاربة مدرسة صحفية لصالح مدرسة اخرى، لكننا أيضا لنا حق. ٭ فقد أنقذ إحسان عبد القدوس بالفعل صحافة الرسالة والرأي، وجدّد شبابها في مصر والعالم العربي، واتاح لها ان تظل راسخة على امواج البحار الهائجة، وليس المهم أن يتعمد ذلك، وانما المهم انه فعله ونجح». ً ٭ في السادس والعشرين من يناير أصدرت مجلة «صباح الخير» عدداً خصصت فيه ملفا كاملا عن إحسان عبد القدوس في الذكرى العشرين لرحيله وقالت في فاتحة الملف: «على الرغم من مرور عشرين عاما على رحيل احسان عبد القدوس، لا ان بريق كتاباته مازال موجودا... واعترافا من مؤسسة روز اليوسف بقيمة احسان عبد القدوس، فقد اقامت مؤسسة روز اليوسف احتفالية خاصة للاحتفال بمرور عشرين عاما على رحيله، وشهدت هذه الاحتفالية حضور العديد من أهل السياسة والثقافة والفن والأدب، اعترافا منهم بدور إحسان عبد القدوس الكاتب الذي تحدث عن كل طوائف المجتمع المصري وطبقاته، والذي اكتشف بعد ذلك انه من السهل على الكاتب ان يتحدث عن الآخرين او ينتقدهم، ولكن ان يتحدث الكاتب عن نفسه فهذا امر في غاية الصعوبة، ولكن فعلها احسان عبد القدوس، وتحدث عن نفسه بمصداقية شديدة. ولذا اصدرت مؤسسة «روز اليوسف» كتاب «إحسان الحب والحرية»، لتعيد قراءة إحسان عبد القدوس من خلال كتاباته، لتكون هدية الاحتفالية الكبيرة بذكرى عشرين عاما على وفاته. ٭ ومجلة «صباح الخير» قامت باستعراض سريع لكتاب «إحسان الحب والحرية» قائلة: «ويبدأ الكتاب بتعريف بقلم إحسان عبد القدوس لنفسه وعلاقته بامه وزوجته، اللتين وصفهما في مقاله قائلاً: «إني منذ بدأت اتحمل مسؤولية تحديد رأيي وتحديد موقفي، وانا مدين بالفضل في بناء كياني كله لسيدتين هما أمي وزوجتي. وليس لمخلوق آخر فضل علىَّ، ففضلهما لا يقتصر على بناء حياتي الخاصة، ولكنهما صاحبتا الفضل الاول في بناء حياتي العامة ايضا في تكوين شخصيتي التي كافحت بها، وفي إعانتي على احتمال الصعاب، وفي اجتياز السقطات، وفي تحقيق ما يمكن أن أكون قد حققته من نجاح».. ويذكر احسان اشتراكهما في الفضل في تحقيق ما وصل اليه. ورغم ذلك لم ينس احسان فضل والده عليه، ويذكر الكتاب ان الاب محمد عبد القدوس قد ضحى بأحب عمل كان يقوم به، فقد هجر الاب الممثل التمثيل من اجل ابنه احسان.. ويذكر الكتاب ان الابن احسان عندما نال شهادة الحقوق قال له ابوه: «اني اعرف انك ستسلك طريقا في الحياة غير الطريق الذي سلكته.. انك تحب الاشتغال بالسياسة وقد تصبح يوما نائباً او وزيراً او رئيسا للوزراء، واخشى ان يكون اشتغالي بالتمثيل عقبة في طريقك، وانت تعلم اني احب ان اضحي من اجلك بكل مالي، ولم يعد لي الآن الا فني، وسأضحي به من اجلك.. ساهجر التمثيل». ٭ وتقول صباح الخير عن الكتاب: «وبسلاسة ملحوظة يتحرك كتاب «إحسان الحب والحرية» للتعريف باحسان من يوم مولده حتى تخرجه في كلية الحقوق، وعمله بالمحاماة بعد التخرج، وتفرغه بعد عام من عمله بالمحاماة الى العمل بالصحافة.. والمعارك التي خاضها في بلاط صاحبة الجلالة.. دخل احسان السجن ثلاث مرات سبب هذه المعارك، ويذكر الكتاب أن اولى هذه المعارك كانت عندما كتب مقاله الشهير بعنوان «هذا الرجل يجب أن يذهب»، والمعركة الثانية كانت معركة الأسلحة الفاسدة التي كانت أحد أسباب ثورة يوليو 2591م، والمعركة الثالثة عندما حرر خبراً في «روز اليوسف» عن احد الوزراء في الحكومة الذي ينقل الأسرار الى السفارة الاميركية، وتم حبسه مدة بسيطة، وجاء حبسه للمرة الثالثة عندما نشر مقاله- الجمعية السرية التي تحكم مصر». ٭ واستمرت مجلة «صباح الخير» في استعراض الكتاب الذي جاء متضمناً آراء نجيب محفوظ الذي قال إن إحسان عبد القدوس «قاسم أمين الأدب» ودكتور يوسف ادريس الذي قال إن إحسان لا يحس بالغيرة ويفرح لنجاح زملائه. والناقد الادبي دكتور غالي شكري الذي قال عنه انه الليبرالي والداعية والمفكر صاحب النظريات. ٭ رحم الله إحسان عبد القدوس، فقد كان مبدعاً ايجابياً، فقد عبر عما يعتقد، وترك بصماته واضحة في تاريخ الأدب وتاريخ الصحافة العربية.