نكتب لمغالبة بعض الانكسارات والغوايات والمخاطر.. نكتب تفاعلاً بمن حولنا.. نكتب بحثاً عن شيء ضائع.. نكتب لنذيب شوائب النفوس.. نكتب لننسى بعضا من حزن كمن في الدواخل وأقام بها، فكانت الكتابة هى الوسيلة الوحيدة للتخلص مما يجوس بالخواطر. ولربما نكتب لأن الكتابة قدر، مثلها مثل الكثير من الاقدار ولربما نكتب لنسطر بعضا من لحظات فرحٍ لن تتكرر. نكتب لأن الأفكار تناوشنا وتحاصرنا، ولأن ما قرأناه تمت ترجمته داخل أدمغتنا وتحور ثم اخذ ابعاداً ورؤى متباينة، فنعبر عنه كتابة وأحرفاً، كلمات نعبر بها عن ذواتنا وافكارنا وما يعتمل بداخلنا. نكتب لأن الكتابة كما المخاض، لها أوقات ولحظات، وحين تكمل دورتها لا بد لها ان ترى النور وتتبدى. ولكن هل الكتابة أمر يمكن تعلمه كما الفنون والهوايات الاخرى؟ أو كما يحدث الآن في بعض الدول العربية الاوربية، إذ نشأت في السنوات الاخيرة معاهد متخصصة لتعليم الراغبين فنون الكتابة والمهارة فيها. ولكني اقول ان يولد المرء وفيه من «جينات» الابداع والتفرد، خير من أن يُلقنها ويُدرسها «الكتابة أعني». وذلك لأن الإبداع أكبر من هذه القوالب التي تقوم عليها مواد التدريس.. وماعونه اوسع، وبحره أعمق، لكن ثمة أمور تمهد لظهور كاتب خلاق، كالشفافية مثلاً والنظرة البعيدة الثاقبة للأمور والتأمل والتفكير وقراءة ما يعتمل بالنفوس، وكشف تعابير الوجوه، والقدرة على تتبع السلوك الانساني، والتوقع بما سيكون عليه السلوك، بمعنى آخر كلما كانت لدى الكاتب المقدرة على قراءة ما يجوس بداخل النفس البشرية ورصد تحركاتها وتقلباتها وانفعالاتها، حركاتها وسكناتها، كان الكاتب اقدر على التعبير. ذلك لأن النفس البشرية كثيرة المداخل متعددة الجوانب. كما أن للغوص في أنواع بذاتها من الكتب وقراءتها بتمعن وتبصر دور في زيادة الوعي لدى الكاتب امثال كتب الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، وغيرها من العلوم ذات الصلة المباشرة بأحوال البشر. ومما لا شك فيه أن القدرة على الاستماع والإنصات تغري العقل وتنشطه وتزوده بالمعلومات. وهل الكتابة إلا أفكار ومعلومات وحقائق تدون؟ وكلما تفرد الكاتب في طريقة عرض افكاره زاد عمله توهجاً، ولكن ثمة اشخاص يولدون وبداخلهم جرثومة الابداع. وهؤلاء هم المبدعون الحقيقيون، وهم رغم قلتهم فكتاباتهم لا يمكن تجاوزها، وكلما مر عليها زمان إزدادت قيمتها وهى صالحة لكل زمان ومكان.. لا تعرف الحدود ولا الحواجز.. تتناقلها الاجيال عبر الازمان والقارات، وهى اعمال يمكن قراءتها من عدة زوايا وابعاد ويتفاوت فهم الناس لها بتفاوت ثقافاتهم ورؤاهم ونظرتهم للحياة. ولكنهم يتفقون جميعاً على شيء واحد هو جودتها وجمال صنعتها، تفردها وتميزها. إنها الاعمال الخالدة إذن، تلك التي خلدها كتابها فخلدتهم أعمال كبار الادباء، امثال اعمال الاديب الروائى العالمي الطيب صالح، واعمال نجيب محفوظ وجبرائيل ماركيز وفرانز كافكا وايميلي وبرونتي وجين اوستن وارنست همنجواي، وغيرهم ممن ابدعوا وغاصوا بخيالهم الجامح وابحروا في العميق. إنه خيال إذن، ممزوج بالواقع مشحون بالعواطف والمشاعر والانفعالات، ملئ بالتصاوير والافكار. إن هذه الأعمال دنيا قائمة بذاتها، وسحر لا يمكن تجاوزه، ومحطات لا بد من الوقوف عندها، وما خلدت هذه الأعمال إلا لأنها تجاوزت المألوف إلى الفريد والمشوق، وتنقلت عبر سموات الخيال الى دنيا وعوالم تتدفق ألقاً ونضارا. رهافة الحس إذن، وغيرها من المبررات هي التي تساعد في الاتيان بافكار ابقى واكثر تأثيراً، الموهبة والرؤية والمخزون الحياتي والطاقة. وتتعدد نوافذ الابداع إذن وتتباين لحظات الالهام والتجلي بتباين الكتاب واوضاعهم واحوالهم، وتتعدد محاور وأسباب ومبررات الكتابة، وتتنوع طرق البوح واساليب اندياح الافكار وخروجها، وتختلف اوقات التجلي والالهام باختلاف الامكنة والجو الخاص للكاتب، ولكن قد يتفق غالبية الكتاب على شيء واحد هو أن الكتابة عالم قائم بذاته، لحظاته سرمدية، فها هو كاتب يقول: استلقي على سريري ليلاً، فتأتيني الافكار، متتالية، متتابعة، اعمد الى إعادة صيغاتها وانا على ذات استلقائي، ارتبها، وعندما احسها وقد اكتملت اقوم فأعمد الى تدوينها، كأنما شرطها الاساسي أن تكتمل وأنا على السرير، ثم ترى النور بعيداً عنه. أما انا فلا املك إلا الاستجابة لها، لوحي هذا الالهام الغريب، وكاتب آخر يقول: عندما استقل المركبات العامة تتناوشني الافكار، تتقارب وتتدافع امامي، اعمل على تجميعها وانا بذات المركبة، وإذ ما يكون القلم والورق ليسا ببعيدين عني فإني اعمل على تدوينها بذات السرعة لاعود تارة اخرى فأعيد صياغتها وتوسيعها كيفما اتفق. وثمة كاتبة اخرى تقول: احب الزحام!! تلكم الوجوه المتقاطعة والمتباعدة والمتقاربة. وما ان اخرج الى شارع مكتظ حتى اشعر ان فكرة ما نبتت على رأسي، أُمعن النظر في الوجوه فتمعن الافكار في التداعي والتدقق، انظر الى الناس فتولد الرؤى وتتجلى الافكار.. فاجمع افكاري على عجل بانتظار لحظة المخاض. هذه إذن آراء بعض الكتاب عن لحظات الالهام والابداع، ولكن لنرى آراء بعض المبدعين من كبار الادباء، ماذا قالوا عن هذه اللحظات الفريدة المتدفقة ألقاًَ؟ تقول الكاتبة السورية غادة السمان في حوار لها على مجلة «العربي» اجراه معها الكاتب الصحافي جهاد فاضل عن الكتابة: وثمة دائماً «حشرة التفكير السوداء» ولا أجد لها اسماً آخر، تلك التي تقرض الروح بالقلق والحيرة، بركة الكوابيس ولعنة الحيرة، ولكن تبقى التجربة المعيشة هى «فياجرا الإبداع». ثم ها هى الكاتبة التشيلية ايزبيلا الليندي تقول عن الكتابة: إن الكتابة هى تفحص طويل لاعمال النفس، رحلة الى اشد كهوف الوعي عتمة وتأمل بطئ. أما الاديب العالمي الطيب صالح فيقول في بعض اعترافاته عن الكتابة: اعتقد ان في الكتابة شيئاً من عنصر اللعنة. وتعالوا لنرى ماذا قالت الكاتبة والروائية السورية كولينا الحوري عن الكتابة، إنها تقول: حكايتي مع الكتابة لم تكن في يوم من الايام تجربة ما، إنها قصة حياتي، ويعودون بالسؤال لماذا تكتبين؟ لماذا اكتب؟ ربما لأن القدر شاء لي أن اولد في بيت مفروش بالكتب والمجلات، مطلوسة جدرانه بالرفوف والكلمات، ممزوج فضاءه بالشعر والافكار. وتواصل الكاتبة حديثها عن الكتابة الى ان تقول: إن الكتابة هى الأنا الآخر الأنا الحي، الذي لا استطيع الانفصال عنه. وحسب ارسطو: فإن الابداع مغسل وجودي يمارس نوعاً من التطهير. أما أندريه جيد فإنه يقول: إن اجمل الأشياء هى التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل، ينبغي التموقع بينهما، بالقرب من الجنون حين نحلم وبالقرب من العقل حين نكتب. وأما الروائي المصري نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل للأداب، فإنه يقول عن الكتابة: أغلب الشخصيات المخزونة عندي لم افكر في ان اكتب عنها، إنما اعايشها في سلوكها وتصرفاتها وحركاتها في البيت والمقهى والشارع، ثم اتلقاها كإنسان يتلقى النداء، لا كمفكر يقيسها ليدخلها في قالب ذهني. ختاماً اقول: هل نحن نتطهر بالكتابة؟ ام نرتقي بها ام نغتسل ونتخفف بها؟ ام ان بها شيئاً من عنصر اللعنة كما ذكر الاديب الروائي العالمي الطيب صالح؟ أم لأنها كل ما ذُكر وقيل من آراء الأدباء والكُتاب؟ ومازال السؤال مطروحاً، ومازالت بعض الاجابات عن السؤال: لماذا نكتب؟ لا تكفي في عالم الكتابة هذا المليء بالاسرار والغموض واللذة والمتعة والاثارة والتشويق، ولنظل فقط ننتظر وبشغف أدب الادباء وكتاباتهم الشيقة يتحفوننا بها، فتبدد بعضا من وحشة وتزيل كثيراً من كآبة وتبين درباً وتمهد مسلكاً، وتعزز رؤى وتفتح آفاقاً وتوسع مدارك وتشع ضياءً. ولنظل نحن أبداً ندين للأدباء والكتاب لنشرب من بحر لا يجف أبداً.