جاء في صحيفة «الصحافة» بتاريخ 13/1/2010، ص 3 بأن هناك تقريراً مصرياً يحذر من مشاكل مائية مع السودان. تقول الصحيفة «وكالات» حذر تقرير للجنة الدفاع والامن القومي من تعرض مصر لمشاكل مائية مع السودان خاصة بعد عملية الانفصال. وكشف التقرير الذي اعده د. امير جميل عضو اللجنة والمحاضر باكاديمية ناصر العسكرية العليا بتكليف من رئيس اللجنة وجود مشاكل مع السودان رغم ما يبدو من دعم ظاهري للموقف المصري. واشار الى قيام السودان باتخاذ بعض الاجراءات التنفيذية من خلال بناء ثلاثة سدود احدهما على مجرى النيل الرئيسي واثنان على نهر عطبرة احد الروافد الرئيسية للنيل. واشار التقرير الى وجود تحركات سودانية اخيرا للتقارب مع دول حوض النيل واجراء حوار مع وكالات اثيوبية لدفع السودان للاقتراب من دول المنابع لتحقيق مصلحة خاصة في قضايا الحدود مع اثيوبيا.. ويستمر التقرير والذي تم عرضه امام مجلس الشعب ويقول بأن انفصال الجنوب اعطى شعورا لدى الشمال بأن مصر تخلت عن دعمهم في الوحدة وهو ما قد يدفع السودان لاتخاذ اجراءات مضادة للمصالح المصرية.. الخ التقرير. من هذا التقرير الذي اعده هذا الاكاديمي المصري يتضح لي مباشرة حوالى خمس نقاط رئيسية ليست غريبة عليّ نسبة لطول متابعتي لهذه القضية منذ عام 2007 اولا: وجود مشاكل رغم ما يبدو من دعم ظاهري لموقف مصر ان هذه ربما تكون المرة الاولى ان يفصح فيها اكاديمي مصري بأن هناك مشاكل برغم ما يبدو من دعم ظاهري لموقف مصر.. في واقع الامر انه اذا رجعنا الى تصريحات المسؤولين السودانيين فربما لا نجد دائما بأن السودان ومصر في خندق واحد فيما يتعلق بموضوع مياه النيل. ان الاصرار على ان السودان ومصر في خندق واحد يأتي في كثير من الاحيان من قبل المسؤولين المصريين والصحافة المصرية الذين يفترضون بأن موقف مصر والسودان واحد فيما يتعلق بموضوع مياه النيل. ان المسؤولين السودانيين اما تأدبا او حياء لا يحاولون نفي مطابقة موقف السودان لمواقف مصر. كيف يكون ذلك ومصر احتلت جزء من هذه البلاد وضمتها اليها بالرغم من ان الموضوع لازال امام منضدة مجلس الامن؟ كيف يكون ذلك ولازالت القسمة الضيزى في اتفاقية 1959م مترسبة في نفوس الكثيرين من السودانيين وخاصة اهالي وادي حلفا؟ كيف يكون ذلك ومياه السد العالي غطت ارثا تاريخيا لا يمكن تعويضه بأي ثمن؟ كيف يكون ذلك وكل ما يؤخذ على مصر من بقية دول حوض النيل ينطلي اثره على السودان؟ كيف يكون ذلك ومصر لم يفتح عليها الله بأن تمد السودان بجزء من الطاقة المتولدة من السد العالي في وقت كان السودان يعاني مشاكل حادة في الطاقة؟ وكيف وكيف... ثانيا: بناء ثلاثة سدود يتضح من تقرير هذا الاكاديمي من سياق الخبر ان بناء السدود التي قام بها السودان تجد اعتراضا ضمنيا من هذا الاكاديمي.. ان مصر لا ترغب في اقامة اي سدود وذلك حتى لا تعترض هذه السدود تدفق المياه الى مصر والتي هي هبة النيل وكأنما خلق النيل ليكون لمصر دون غيرها.. ان نفس هذا الامر صرحت به مصر كثيرا في اتجاه اثيوبيا وذلك وفقا لحقها التاريخي الذي تضمنته اتفاقية 1902 التي وقعتها السلطات البريطانية والايطالية مع منليك الثاني امبراطور اثيوبيا في ذلك الوقت. وقد قضت تلك الاتفاقية الا تقام اي حواجز «سدود» على مجرى النيل الازرق حتى لا يتأثر تدفق المياه الى مصر. ان هذه الاتفاقيات وغيرها انما وضعت لتطمئن مصر من ناحية مياه النيل وتأكيد تدفقه اليها حتى ولو ادى ذلك الى ان تصاب اثيوبيا بالجفاف والتصحر والمجاعات. ويبدو ان اتجاه الحكومة الحالية في اثيوبيا بناء السدود التي بنتها هو بحجة انه لا يعقل ان تنبع المياه من هضبتها ويظل اهلها دون ماء وحياة لتستفيد مصر. وهذا ما خلق الكثير من الحساسيات بينها وبين اثيوبيا بالرغم من الهدوء الظاهري بينهما. وهذا يعني انها لم تكن لترغب في ان يقيم السودان هذه السدود التي اشار اليها التقرير. ثالثا: تحركات سودانية للتقارب مع دول حوض النيل يشير التقرير المشار اليه بأن احد المهددات للامن القومي المصري هو «تحركات سودانية للتقارب مع دول حوض النيل»!! والله غريب امر اخوتنا في مصر. انهم يقومون بالتقارب مع بعض دول الحوض، مثال ذلك اعلان الرئيس المصري قبل اسابيع ان مصر سوف تستثمر «2» مليار دولار في اثيوبيا. وربما كان ذلك رد فعل لعدم تجاوب السودان بمنح مصر مليون فدان من مشروع الجزيرة لتقوم باستزراعه ونقل المنتجات الى مصر وذلك بدلا من ان تساعد السودان في اعادة الحياة الى مشروع الجزيرة!! ان مصر تقوم بعدة اتصالات بعضها معلن وبعضها غير معلن ولكنها لا تريد للسودان ان يتقارب مع بقية دول حوض النيل. بمعنى آخر على السودان ان اراد التقارب مع بقية دول حوض النيل فعليه ان يستأذن مصر اولا.. لا افهم هذه الملاحظة ا لا في هذا الاطار! هل لازال السودان تابعا لمصر؟ ربما ونحن لا نعلم؟! هذا يذكرني بما قاله وزير الزراعة المصري ذات مرة خلال هذا العام انه ذاهب الى السودان ليرى ما يفعله المستثمرون الاجانب في السودان؟! هل عينت سلطة ما وزير الزراعة المصري بوليسا ليعرف ما يفعله المستثمرون العرب والاجانب؟ افتونا يا قوم! رابعا: اجراء حوار مع وكالات اثيوبية لدفع السودان للاقتراب من دول المنابع لتحقيق مصالح خاصة في قضايا الحدود مع اثيوبيا لست ادري ما هي هذه الوكالات الاثيوبية التي اشار اليها صاحب التقرير اياه؟ السؤال هو ما العيب في ذلك؟ ماذا يضر السودان لو انه تحاور مع وكالات اثيوبية او اي شكل من الاشكال؟ ان هذا امر يسرني كثيرا لان معنى هذا هو ان المسؤولين في بلادي بدأوا يحسون بأهمية مراعاة مصالح البلاد والعباد وهذا لا شك امر جيد وايجابي لان البعض في بلادي كان ولازال يرى ان المسؤولين لا يعرفون اين تقع مصالح السودان. ولكن ما ذكره التقرير هو امر يحمد عليه المسؤولون. الا تسعى مصر دائما لان تحقق مصالحها حتى ولو كانت على حساب مصالح الآخرين؟ لماذا لم تستشار اثيوبيا على ايام الراحل العظيم عبد الناصر عندما وقعت اتفاقية مياه النيل «تلك القسمة الضيزي» في عام 1959 والنيل الازرق يمد النيل الكبير ب 86% من جملة ايراداته!! لماذا يكون ساكنو الهضبة كالعير في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول. ليس ذلك فحسب فاننا نجد انه كلما حاول السودان التقارب مع الجارة اثيوبيا نجد ان هناك هجرة من المسؤولين المصريين الى اديس ابابا. حدث هذا في العام الماضي عندما نجح السودان في عقد عدة اتفاقيات تعاون بين السودان واقليم التقراي لتنظيم تجارة الحدود وتبادل المنافع. عندما حدث هذا قام وفد مكون من «100» مسؤول ومستثمر مصري بزيارة اثيوبيا برئاسة السيدة وزيرة التعاون الدولي للاتفاق معها على مشروعات مشتركة واقامة مصارف الخ.... هذا وقد خصصت الاهرام الاقتصادي عددا كاملا للزيارة واعتبرت الزيارة كأنها فتح مبين!!! اي انه كلما حاول السودان التقارب مع اثيوبيا نجد ان هذا يثير حفيظة المسؤولين المصريين وكأني بهم لا يريدون لنا ان يكون هناك تقارب بيننا وبين هذه الجارة والتي في تقديري هي اقرب الينا من عديد من الجيران في كثير من المناحي.. وهذا يعني ايضا ان السودان لابد من ان يستأذن مصر في علاقته مع جيرانه، وهذا ايضا ما كان ولا زال يدفع مصر الى ان يكون في السودان دائما وابدا حكومة تسمع وتنفذ ما يطلب منها.. خامسا: فصل الجنوب وهو ما دفع السودان لاتخاذ اجراءات مضادة للمصالح المصرية يشير التقرير بأن السودان ربما يأخذ على مصر انها لم تساعد السودان كثيرا في تحقيق الوحدة بين شقي البلاد.. وهذا حسبما يراه التقرير «دفع السودان لاتخاذ اجراءات مضادة للمصالح المصرية». لست على علم بهذه الاجراءات التي قام بها السودان. ولكن الذي اعلمه ان العديد من السودانيين يعتبون على مصر انها تأخرت في مساندة السودان وهو عتاب اخوي. ان السودان لا يمكن ان يفكر يوما ما ان يضر بالمصالح المصرية حسب مراقبتي للاحوال. تذكرون انه عندما اختلف المفاوضون في اتفاقية 1959م عاد المرحوم طلعت فريد الى الخرطوم فما كان من المرحوم ابراهيم عبود الا ان امره بالتوقيع على ما طلبه المصريون وذلك دون علم المفاوضين الذين بقوا في القاهرة.. ان طيبة السودانيين والمسؤولين السودانيين وعفويتهم لا يمكن ان تسمح لهم ان يعملوا على الاضرار بمصالح مصر. ان الذي يزعج مصر في موضوع انفصال الجنوب والذي اصبح واقعا هو ان المسؤولين اعلنوا انهم سوف يعملون على اعادة الحياة الى مشروع جونقلي.. وان اي وفر في المياه يحدث نتيجة لذلك سوف يقسم بين جنوب السودان وشمال السودان وليس بين السودان ومصر!! ويبدو لي ان هذا هو ما يزعج المسؤولين المصريين في الوقت الحاضر. وفي الجزء الثاني من هذه المقالة اود ان اتطرق الى ما حدث من جانب مصر في اطار سياستها واستراتيجيتها في مياه النيل مما اضر كثيرا بمصالح السودان. وانه اذا لم تغير مصر طريقة تعاملها مع السودان ودول حوض النيل فلا ارى بدا من ان يعمل السودان على تحقيق مصالحه بدون املاء من احد.. والله أبدا من وراء القصد.