هل نحن على مقربة من الانزلاق في عمق الهاوية ؟ هكذا يتساءل الشارع دون ان يجد الاجابة القاطعة ، حتى عندما ارتفعت وتيرة تلك التساؤلات في الايام الاخيرة من شهر ديسمبر نهاية العام الماضي اي قبل اسابيع من استفتاء مصير جنوب السودان لم يكن هناك ما يزيل حالة الهلع التي سيطرت عليه ولازالت. اخبرني صاحب محل لبيع الصحف بالخرطوم ان الطلب على الصحف السياسية زاد بمعدل خمسة أضعاف مما كان عليه ايام الانتخابات، هذا الحديث كان قبل يومين من اعداد هذا التقرير. وتقول ياسمين طالبة بكلية الفنون تحدثت ل»الصحافة» انها ظلت تتابع القنوات الاخبارية بشكل كبير في الآونة الاخيرة. يرد الناشط بالمجتمع المدني سامي صلاح المخاوف وحالة الذعر التي سيطرت على كل ارجاء البلاد الى احساس الجميع بان اي انهيار امني او عنف مصاحب للحدثين «الانتخابات والاستفتاء» قد يعود بالضرر الشخصي عليهم وبشكل مباشر ، مما زاد وتيرة التوتر واعطى قراءات خاطئة لما سيحدث ويشدد على ان كل متابع دقيق يمكنه الوقوف على ان ماكان يمكن حدوثه عقب الانتخابات هو الاسوأ لكن الاستفتاء ونتائجه التي كانت واضحة للجميع منذ فترة اشارت الى ان العنف بسبب الانفصال الآتي لن يقع ، ويدعم قوله بان الوحدويين والانفصاليين لم تكن قواهم متوازنة بالشكل الذي يجعل كل تيار متربصاً بالآخر. ويمضي بالقول « حتى المنادين بالوحدة كانوا يقومون بأداء واجب للخروج من حساب التاريخ» لكن صلاح عاد وقال ما يخيف المواطنين لم ينتهِ فالانفصال عندما يصبح محسوسا بالشارع قد يفجر براكين من الغضب المتراكمة ، حسنا ... انتهى الاستفتاء واعلنت بعض من نتائجه الاولية بلا مفاجآت فالانفصال هو الخيار الغالب ، مع ذلك لازال الخوف يحيط بالجميع ولهم الحق فالمشهد لا يعطي مؤشرات تجعل احدا مطمئناً، لما ستأتي به الايام القادمة فحالة التباعد بين القوى السياسية الشمالية لا يشير الى اتجاه حلول يمكن ان تتولد ، بجانب الضغوط الاقتصادية التي باتت اقرب مما كان يتوقعه المواطنون حسب تصريحات أدلى بها عدد من الاقتصاديين والمسؤولين بعدم تأثر الوضع الاقتصادي بحلول يناير وهو ما لم يحدث ، بالجانب الجنوبي يقول احد قيادات الحركة الشعبية فضل حجب اسمه «ان ما ينتظر الجنوب سيكون اكثر رهقا ، ويضيف ان عاصمة الدولة الجديدة ستكون في مأزق وهي مرشحة لاستقبال اكثر من ستة ملايين مواطن مما يعد فوق طاقتها لعدم وجود الخدمات الكافية» . اذن الشأن السياسي وضبابية الرؤية للمستقبل القادم بالبلاد هو ما يسيطر على الجميع ليزيد من مخاوفهم ، فالتكهنات التي كانت تنتظر البلاد لم تختلف عن ما سبقها إبان انتخابات ابريل والآن تجاوز الاستفتاء محطة الخطر المتوقع وبدأت تعود الحياة الى طبيعتها تدريجيا حتى ما يحيط باعلان النتيجة من ذعر متوقع بات حظه ضعيفاً. يقول المحلل السياسي الدكتور صلاح الدومة ان التحديات التي تواجه الدولتين الجنوبية والشمالية هي ما تدفع بالخوف تجاه المواطنين مضاف الى تلك التحديات الشعارات المرفوعة من قبل المعارضة ومطالبتها بحل البرلمان لافتا الى ان الامر بمثابة مقدمات لاسقاط النظام ، وعلى الرغم من ان الدومة يشدد على ان المعارضة ضعيفة بجانب محاولات النظام لاضعافها اكثر الا انه يرى ان العوامل الخارجية تشجع قطاعات واسعة لمساندتها ، في اشارة منه لموجة الاحتجاجات التي سيطرت على الشوارع العربية عقب نجاح الثورة التونسية وقدرتها على اقتلاع نظام بن علي ، الامر الذي عبر عنه المسؤول السياسي للمؤتمر الشعبي كمال عمر في حديث ل»الصحافة» وقال ان قوى المعارضة في حالة معنوية مرتفعة بعد نجاح الشارع التونسي ، مؤكدا على ان خيارات ازالة النظام او القبول بحكومة انتقالية تمهد لانتخابات حرة ونزيهة هو الخيار المطروح الآن ، هذا الحديث قبل ايام من اعتقال زعيم المؤتمر الشعبي وعدد من القيادات ، ذات الحديث عبر عنه القيادي بحزب البعث محمد ضياء الدين الذي تحدث باسم قوى الاجماع بمؤتمر صحفي اعقب الاعتقال الاخير الذي طال الترابي وقال « على المؤتمر الوطني العمل وفق تقديرات قوى الاجماع الوطني تفاديا للمواجهة» ، لكن ماتهدد به المعارضة عبر منابرها يقابله المؤتمر الوطني بنبرة اكثر خشونة عبر عنها مسؤول المنظمات بالمؤتمر الوطني الدكتور قطبي المهدي في تصريحات صحفية قائلا « ان كانت المعارضة تعول على الشعب ليأتي بها،قستنتظر طويلاً ، معتبرا ان الشعب اصبح واعياً ولايمكن ان يقوم بأي عمل يأتي بحكومة فاشلة جربها عشرات المرات، واضاف الشعب اتى بها في السابق عبر الثورات لكنها خذلته» ، ما لا يمكن تجاوزه هو ان القاسم المشترك بين الحكومة والمعارضة هو المراهنة على الشارع ، الحكومة تتحدث وعينها على نتائج الانتخابات الاخيرة والمعارضة ترتكز على التحولات التي خلفها انفصال الجنوب بجانب عدم اعترافها بما افرزته الانتخابات وتتحدث عن استعدادها للنزال والمواجهة لتغيير الاوضاع ، الدومة يشكك في الخطوة بالقول ان المعارضة قياداتها لم تثبت جدية في القيام بالتضحية من اجل التغيير ، وهو امر يقلل من تفاعل الشارع معها بالشكل المطلوب ويقفز طارحاً طريقاً ثالثاً حتى لا تتفكك الدولة اساسه هو ان يقوم النظام الحالي بتجاوز المعارضة واجراء اصلاحات لا بالاقوال بل بالافعال كما يشدد الدومة على رأسها اطلاق صراح المعتقلين واشاعة الحرية بالكامل والاعتراف بالآخرين الموجودين بالساحة وتقليل الضغوط الاقتصادية ويضيف هذه هي الاصلاحات التي يمكن تنفيذها شمالا لتجاوز التحديات لكن هناك ما هو متشابك مع الدولة الوليدة ويحتاج لحلول سريعة كي تفتح الباب امام حلول اخرى يحتاجها الشمال والجنوب، فالدولة الجديدة امامها صعوبات جمة تتلخص في (وضع دستور ، تشكيل حكومة ، خدمات، نزاع داخلي ، مشاكل مع دول الجوار حول الحدود «مثلث لامي» المتنازع حوله مع كينيا ) اذن دولة جنوب السودان التي باتت الآن واقعا يحتاج الكثير من التعمق قبل اختيار الاتجاهات عنوانها البارز يقول انها ستواجه الكثير من الصعوبات التي لا مفر منها ، لكن ما لا يمكن تجاهله ايضا هو ما يحيط بالشمال من ازمات تحتاج الى تفكير سريع حتى لا يغرق في دوامة من الفوضى لن تنتهي في الحدود المختلف حولها بين الشمال والجنوب بل ستتعداها لابعد من ذلك بكثير، فبجانب المشاكل القديمة فما يتولد من الانفصال وعلى رأسه (أبيي والحدود) بجانب نقص متوقع في الميزانية والاوضاع الامنية. انتهى الاستفتاء وبات ذهاب ربع مساحة البلاد واعلان دولة الجنوب في انتظار التاسع من يوليو، لكن قبل كل ذلك لا بد للجانبين شمالا وجنوبا التحرك وفق فرضية واحدة وبلغة محددة هي لغة البحث عن طريق مغاير يهبط بالاستقرار في الدولتين في بر الأمان .