واصل النظام الحاكم فى مصر خطواته الاصلاحية العاجلة باعلان التشكيلة الوزارية الجديدة برئاسة الفريق احمد شفيق، فيما تواصلت فى مدن البلاد المختلفة التتظاهرات الغاضبة المطالبة برحيل النظام. وعين مبارك مجموعة من الاسماء غير المعروفة للشارع المصري ، فى ظل ازدياد السخط الشعبي على قيادات الحزب الحاكم ،واحتل مجموعة من التكنوقراط مكان رموز اساسية فى نظام مبارك مثل وزير المالية بطرس غالي ووزير الداخلية حبيب العادلى. وتم اعلان المشير طنطاوي نائبا لرئيس الوزراء مع احتفاظه بمنصبه كوزيرٍ للدفاع والانتاج الحربي، والابقاء على مجموعة اخرى من الوزراء تضم وزير العدل ممدوح مرعي، و احمد ابو الغيط وزير الخارجية وانس الفقى وزير الاعلام وحسن يونس وزير الكهرباء، مع احتفاظ مفيد شهاب بوجوده فى المجموعة الوزارية، بشغله لموقع آخر. ورغم ان التشكيل الجديد يستهدف تهدئة الشارع ، وابعاد العناصر التى لا تحظى بقبول الشارع ، الا ان مبارك احتفظ بالمجموعة الاكثر قربا منه ، ما عدا وزير المالية بطرس غالى ،الذى اشرف بحكم تنقله بين وزارات القطاع الاقتصادي على تنفيذ سياسات اقتصادية يرى مراقبون انها تنتمى الى الرأسمالية المتوحشة. دلالات خروج بطرس غالى من الوزارة لا تخفى على احد، خاصة وان الرجل كان يحظى بدعم مبارك ومساندته طوال فترة توليه الوزارة،وقيل ان لذلك اسباب متعدده، كما ان الرئيس كان يدعم سياساته وخططه المالية، والتى تحظى هى ايضا فى المقابل بكراهية قطاعات كبيرة من الشارع المصري، مثل قانون الضريبة العقارية، الذى استحدث مؤخرا، وتتداول فى المحاكم الآن دعاوى لابطاله بدعوى عدم دستوريته، بجانب مجموعة اخرى من الجبايات، اثقلت الناس، وتقف بموازاة اعفاءات ضريبية ضخمة، قدمها غالي لمجموعات من رجال الأعمال المتنفذين، اعلن انها تصل لمليارات الجنيهات. كما تتهم جماعات معارضة للنظام الحاكم فى مصر غالي باهدار الاموال العامة ، عبر صرفها على تشييد بنى تحتية ومنشاءات لا يستفيد منها الا طبقة محددة من المجتمع تصل نسبتها الى 5% من مجموع الشعب. ويتداول على نطاق واسع فى مصر ، ان غالي الذى تقلب فى المناصب الوزارية منذ وصول مبارك الى السلطة، مدعوما بنفوذ امريكي يجعل وجوده ضمن التشكيل الحكومي فى مصر امرا لا فكاك منه. ولعب بطرس بطرس غالي، ادواراً خارجية لصالح النظام المصرى ، اذ قاد اكثر من مرة حملات للدفاع عنه، فى الاوساط الاعلامية والاستراتيجية، فى الولاياتالمتحدة واوروبا الغربية،ودبج غالي عديد المقالات فى الصحافة العالمية لذات الغرض، مسوغا لتضييق النظام على معارضيه، خاصة جماعة الاخوان المسلمين ، مبرزا مخاطر وصول الجماعة الى السلطة، ومحذرا من انهيار الاوضاع فى مصر، حال حدوث ذلك، ومقدما النظام الحالي كحامي للدولة المدنية ولحقوق الاقليات الدينية والمرأة. كل ذلك جعل من غالي وزيرا لا يتمتع بشعبية بالمرة، وجعل قراراته وتصريحاته، مثيرة للجدل، ومبعث للاستياء. وتكمن المفاجأة فى ان الرئيس مبارك قد اختار تقديم غالي، رغم كل الادوار التى لعبها لصالح نظامه، ككبش فداء .. فى هذه المرحلة، تاركا باب التساؤلات مشرعا ، حتى الآن ، حول استمرار خلفه فى تنفيذ ذات السياسات الاقتصادية والمالية، التى اخرجت الجماهير الى الشوارع.وجعلت من حكومة د. نظيف اول حكومة فى تاريخ مصر، تقال بضغط الجماهير.ويرى المراقبون ان نكوص الحكومة المصرية عن تطبيق سياسات السوق الحر ، فى نسختها المصرية ، استجابة للضغوط الجماهيرية، سيعرض الاقتصاد المصري للصدمات و الانهيار فى ظل الخلل البنيوي الذى يعيشه، وفى ظل انخفاض عائدات الصادرات وارتفاع فاتورة الاستيراد، فضلا عن ازدياد الدين المحلي والعالمي. واطاح التشكيل الحكومي الجديد بوزراء من العيار الثقيل، مثل وزير الثقافة فاروق حسنى الذى شهد عهده تفشى الفساد فى مؤسسات الوزارة واذرعها ، ووصل الفساد الى مكتب الوزير نفسه حيث يقضى مديره السابق الآن عقوبة السجن.ويناصب اغلب مثقفى مصر وادبائها حسنى العداء،لان عهده شهد سيطرة الاتجاهات المحافظة والمتشددة على حركة الثقافة والانتاج الادبي، وتغولها على حرية الفكر. ويحسب على الوزير السابق ايضا فشله فى الدفاع عن الكتاب والمفكرين والفنانين فى خضم ازمات متتالية واجهوا فيها دعاوى الحسبة الدينية ،وحملات استهداف وتشهير من التيارات الدينية. وحل بديلا لفاروق حسنى فى الوزارة المفكر د. جابر عصفور الامين العام الاسبق للمجلس القومى للثقافة ، والكاتب الاصلاحى المعروف الذي يحظى بشعبية مقدرة وسط قطاعات المفكرين والمثقفين والذي وجدت فترة ادارته المجلس الاعلى للثقافة اشادة بالغة من الاوساط الثقافية المصرية والعربية ويعرف عن عصفور دعمه للاتجاهات الجديدة والاجيال الناشئة في حقول الثقافة والفنون. كما غادر التشكيل وزير الصحة رجل الاعمال حاتم الجبلي الذى تلاعب اركان وزارته بميزانية العلاج على نفقة الدولة وتقاسموها مع عدد من نواب البرلمان. واضطر الوزير نفسه بعد تفجرالفضيحة الى اعادة اموال صرفها وزوجه فى رحلة علاج بالخارج الى خزينة الدولة.وكان من المتوقع ان يذهب اللواء حبيب العادلي وزير الداخلية الى الشارع بعد فشله فى احتواء الاحتجاجات الشعبية ، و فى قمع الشارع، وجلس على مقعده اللواء محمود وجدي الذى عرف عنه خلال خدمته فى سلك الشرطة، محاربته للفساد واساءة استخدام السلطات للقوة، وكان كما نقلت مصادر مصرية ، فى طريقه لانهاء خدمته فى الوزارة. واستحدث مبارك فى هذا التشكيل وزارة جديدة للأثار وعين زاهى حواس، الامين العام السابق للمجلس الاعلى للآثار، وزيرا فيها ، حاسما المطالب المتطاولة بانشاء وزارة تهتم بالآثار المصرية وتحافظ عليها، وان كان هذا التعيين ارتبط بمحاولات اسباغ وجوه شعبية و محترمة ومقبولة لدى الشارع المصرى، يقف حواس فى مقدمتها. واحتفظ مبارك بمهندس السياسة الخارجية المصرية احمد ابو الغيط رغم الانتقادات الداخلية والعربية لطريقة ادارته للملف الفلسطيني بتصريحاته العدائية تجاه اهالي غزة ابان ازمة الحصار الاسرائيلي لها، وتتهم اغلب الاوساط السياسية المعارضة في مصر ابو الغيط باضعاف الدور المصري في السودان وغياب التأثير المصري على مجريات الامور في السودان خصوصا في ما يتعلق باتفاق السلام الشامل الذي قاد الى انفصال الجنوب وكذلك احداثه فراغا في علاقات مع دول افريقية قادت الى فشل مصر في ادارة ملف مياه النيل مع دول الحوض بما يهدد الامن القومي المصري. وغيب المشهد الاحتجاجي فى مصر، كما كان متوقعا،عن التشكيل الوزاري الجديد، مجموعة امانة السياسات المتنفذة بقيادة جمال مبارك ورجال الاعمال، فيما ضمت وجواً من التكنوقراط و العسكريين. وبذلك يكون مبارك قد القى بآخر اوراقه الاصلاحية فى مواجهة حالة الغليان التى تنوء بها الشوارع فى مصر ، فى انتظار رد الفعل الشعبي على هذه الخطوة، والذى يتوقف عليه قدرة هذه الحكومة على نزع فتيل الأزمة، واعادة الاستقرار الى البلاد، من عدمها.وربما تحدد الساعات القادمة مصير هذه الحكومة الجديدة، ومصير النظام المصري بأكمله، فى حال استمر امساك الشارع المصرى بزمام المبادرة.