5 . عرف الاستفراد بالسلطة والتحكم في رقاب الناس والاستئثار بخيرات مجتمعهم في تاريخه الطويل بأسماء مختلفة ليس الاستبداد الا واحدا منها ،وربما عن مفهوم الطغيان من اقدم المفاهيم التي اختلطت بمفهوم الاستبداد، حيث استخدما للاشارة الى انظمة الحكم التي تسرف في استخدام القوة في ادارة السلطة والسيطرة السياسية التامة بواسطة حاكم فرد. او باعتبارها مترادفين غامضين للحكم القسري التحكمي المتعارضين مع الحرية السياسية والحكومة الدستورية وحكم القانون. وقد استخدم (ارسطو) مفهوم الطغيان ليدل به على الوجه الفاسد للحكم ، فالطغيان لا موضوع له الا المنفعة الشخصية للحاكم وهو حكم فرد يلي على وجه السيادة او الجماعة السياسية ، او بعبارة اخرى الطغيان ليس شيئا آخر الا الحكم المطلق الذي يحكم وهو بمعزل عن كل مسؤولية وفي منفعة الحاكم وحده، دون ان يعني رعاياه شيئا ما له. فالطغيان - بحسب (ارسطو) - وهو حكم فردي يقوم على العنف ويستهدف مصلحة الطاغية الخاصة. وقد ظل مفهوم الطغيان هو السائد في الفكر السياسي العربي حتى جاء (مونتسكيو) وابرز مفهوم الاستبداد، ولكن الشائع استعمال اللفظين كمترادفين لتلك الصورة القاسية في الحكم الفردي، ويطلق مصطلح الطغيان ومقابله على الدول البوليسية برغم وجود قانون فيها، لأن السيادة ليست للقانون بل لإرادة الحاكم، وفي العصر الحديث استخدم مفهوم (الدكتاتورية) ليدل على حالة سياسية معينة، تصبح فيها جميع السلطات بين شخص واحد، يمارسها حسب مشيئته، وهنالك من عبر عن الاستبداد بمفهوم التسلطية الذي هو مفهوم حديث نشأ مع الدولة الحديثة وامتداداتها البيروقراطية، بحيث تخترق المجتمع المدني بالكامل وتجعله امتدادا لسلطتها، وتحقق بذلك الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة. وفي المفاهيم الحديثة التي تفيد معنى الاستبداد مفهوم (الشمولية) وهو يتفق مع المفاهيم السابقة في سيطرة فرد او مجموعة افراد على الحكم، ويختلف عنها في انه يسعى الى صهر افراد المجتمع في بوتقة آيديولوجية واحدة . وحين يستولى الطاغية على السلطة السياسية، ويجمع بين يديه السلطة والمال، ويحاول جاهدا التحكم في قوت الشعب اليومي والحاق الاهانة بهم، بغرض تحقيق التوازن النفسي الكاذب له من خلال حالة الاسقاط لذاته المهانة وعديمة الكرامة و الرفعة والسمو. وبمراجعة بسيطة لمسيرة كل الطغاة في العالم وكيفية استحواذهم على السلطة تجد انهم مارسوا عمليات الاغتيال والغدر واسرفوا في سفك الدماء للمنافسين لهم، وانهم غالبا ما يتخذون من الاحزاب الشمولية ، طريقا للاستيلاء على السلطة. واول قرار يتخذه الطاغية عند استيلائه على السلطة، هو الغاء القانون الوضعي واضعاف الاعراف الاجتماعية و القيم الدينية لفرض توجهاته وقيمه وقوانينه الخاصة على المجتمع. كما انه يعمل بسياسة الاقصاء لكل الشرفاء في مرافق الدولة،ليحل محلهم الضعفاء والذين يسبحون بحمد الحاكم، وانها سياسة تهدف لافساد المجتمع وتجهيله من اجل احكام السيطرة عليه ولأمد غير محدود. ويعمد الطاغية الى التعامل مع المجتمع بالقسوة والعنف المصحوب بسياسة التجويع والافقار ومن ثم منحه فتات الموائد على شكل (مكرمة) لما تعنيه الكلمة من كرم وتفضل سلطوي على المواطنين، وفي وجهها الآخر تعني الماهنة والمذلة والصدقة والافتقار... ولكن ليل الاستبداد قد يدوم ولكنه لن يطول كثيرا.. وهذه هي سنة الكون وقانون الحياة.. لأن الاستبداد يسير ضد تيار الحياة الانسانية.. لأنه تشويه لفطرة ، ولذلك فلا يمكن ان يستمر طويلا.. طالما قدر للحياة ان تستمر وتنمو وتتطور ... فالمستبد مثل اي ميكروب او فيروس يدخل خلايا الجسم لتدميرها . ولكن جهاز المناعة الموجود بالجسم، سرعان ما يكتشف الميكروب او الفيروس ويقضي عليه.. وهذه هي سنة الحياة وقدر الانسان.. الامثلة التاريخية لهلاك منظومات الاستبداد ليس له حصر (ففرعون) قد هلك غرقا وجنوده.. (ونيرون) احرق كل شيء واحترق معه.. . (وشاه ايران) ضاع وضاع ملكه، ولم يجد في نهاية حياته مأوى يأويه ، وظل حائرا بطائرته في الجو وقد ضاقت عليه الارض بما رحبت.. (وشاوشيكو) انتفض عليه شعبه هو وزوجته سخطا وغضبا وتم اعدامهما.. وقبلهم هتلر والذي تسبب في موت الملايين من البشر، ثم مات منتحرا او مقتولا.. وكثيرون غيرهم.. واخيرا (بن علي) طاغية تونس هرب من غضب شعبه وظل هائما بطائرته في الجو.. يلتمس مأوى هنا وهنالك .. وانكره الكثيرون حتى الذين صنعوه الا ان استجابة السعودية ولأسباب انسانية.. 6 . لم تعرف البشرية على مدى تاريخها ظاهرة مدمرة كما (الطغاة) .. الذين انكوت الانسانية بنارهم، حتى اكثر من اي ظاهرة طبيعية مدمرة كالزلازل او البراكين او الاعاصير ، فعشرات الملايين من ابناء البشر سقطوا قتلى وجرحى ضحية حرب ارادها طاغية.. فالطغيان موجود ما دامت عناصر انتاجه مستمرة.. وقد تختفي هذه الظاهرة في مكان، بعد القضاء على عناصر انتاجه. او البيئة الحاضنة له، وقد تظهر او تبقى في مكان آخر لتوافر هذه البيئة.. وهنالك عدة مقومات او عناصر تشترك فيما بينها لصناعة الطاغية، كفساد النفس الذي يحول صاحبه الى وحش ضارٍ، بعد ان يضع آدميته جانبا ، ليبدأ رحلة الصعود سياسيا والسقوط انسانيا.. وبعد فساد النفس، سنجد الشعوب المستأنسة وكيف تتحمل النصيب الاعظم في انتاج الطغاة والطغيان بتركها الحبل على الغارب.. للمستبدين يفعلون فيهم ما يشاءون طوعا حينا وقهرا حينا آخر.. بعد ذلك يأتي دور بطانة السوء التي توفر حماية للحاكم، وتكون كبش الفداء له وقت الحاجة.. تزين الشر للحاكم وتبعد عنه الشرفاء، وتحصل منه على كل الامتيازات وتزيف له الحقائق، وتلبس من اجل الحق الباطل ، وتبرر كل ما يفعله باعتباره الوحيد الذي يعرف مصلحة شعبه.. ومن بين عناصر انتاج الطغيان الاحزاب الفاسدة. موالية للنظام او معارضه له وتكتفي بالصراع الداخلي على زعامتها.. او القبول ان تتحول الى ديكور.. لاضفاء مسحة ديمقراطية على النظام المستبد.. كذلك الاحزاب المستأنسة او العميلة بالخارج تساعد ايضا في انتاج الطغاة والطغيان.. اضف الى ذلك دور القوة الخارجية التي تحرص على تنصيب حكام موالين لها كي تضمن الحفاظ على مصالحها، حتى لو جاءت على حساب شعوبهم.. 7 . كان (بن علي)، في تونس احد هؤلاء الحكام الطغاة المستبدين دكتاتورا مارس القمع والعنف وصادر كل الحريات حتى الشخصية، واهان وذل شعبه.. فرض نظاما بوليسيا قاسيا على شعبه، ساعده في ذلك الدعم والمباركة الخارجية، ومن قوى خارجية.. وكان ابرزها الولاياتالمتحدة .. فقد عززت امريكا النظام وعملت على تصفيحه بكل وسائل السيطرة والقوة... واعطته تكنولوجيا العصر التي تساعد على القمع والقهر.. بدءاً بالقنابل المسيلة للدموع... الى المدافع الرشاشة.. الى وسائل التصنت الالكتروني، الى وحدات للتجسس ومقاومة الفعل الالكتروني في وزارة الداخلية كل ذلك في اطار مقاومة الارهاب وضرب الحركات السياسية، خاصة الجماعات والاحزاب الاسلامية، امريكا كانت ترغب في ان يستقر النظام.. وان تحافظ على رجله القوي في تونس، فكانت كل المواصفات الامنية والسياسية، والقمعية الامريكية ، تنطبق على هذا الرجل، والذي اصلا كان رجل امن وانه يستطيع ان يحكم بمنطق الامن، وكانت امريكا تريد تونس استراتيجيا لتحقيق اهدافها القومية سياسيا واقتصادية وامنيا وحتى ثقافيا، وبالتالي تريد امريكا لنظام (بن علي) ان يستقر ولو بالقوة الامنية و ان يستمر وان تمنع الثورة، ولذلك سارع (بن علي) على انشاء قواته الامنية والمتعددة وتم تدريبها داخليا وخارجيا في امريكا وفرنسا للقيام بعمليات الامن الخاصة واساليب القمع والسيطرة والتأمين، وهذا الجدار الامني الفولاذي اعتمد عليه كليا في تنفيذ كل سياساته القمعية في واجهة من يخالفه الرأي او يقف امام طلعاته... وكان لابد من تحصين النظام وتصفيحه اكثر بدائرة من المنتفعين ودائرة من المستغلين من الافراد والهيئات وبعض الاحزاب الضعيفة.. ولمزيد من التحصين والتصفيح للنظام كان لابد من امتلاك السيطرة على دائرة الاعلام، وحتى تكتمل السيطرة كان لابد من وجود واجهة اعلامية معقولة تمهيدا للقمع وان تعطي النظام غلالة رقيقة من المشروعية، لكي لا يبدو وجه النظام قبيحا، فالآلة الإعلامية لما لها من سحر يمكنها تزيين صورة النظام وتبرير العنف والتجاوزات والدفاع عن شرعية النظام. عائلة الرئيس نفسها كانت المهتمة بالاعلام كانت هي المالكة و بعض افرادها مالكين لأكبر وسائل الاعلام سواء المرئي او المسموع.. وكان لابد من وجود دستور ومجموعة قوانين وتشريعات تضفي على النظام مشروعية، على ان تمنح هذه المشروعية الرقابة والسيطرة والطواريء والمحاكمات وتبرير وسائل الردع والتعذيب والعنف والتشريد. وهكذا بنى (بن علي) نظامه الاستبدادي الدكتاتوري على اجهزة امنية قمعية قوية وعلى واجهات سياسية ودستورية واعلامية وبدأت تونس كما يصورها اعلام (بن علي) بلداً مستقراً يحقق معدلات نمو اقتصادي يفوق المعدلات الافريقية والمغاربية ، بدأ (بن علي) يظن انه في مأمن وانه باق في تونس ورجلها القوي وان نظامه المحصن والمصفح غير قابل للاحتراق، وان هنالك قوة خارجية حارسة وضامنة، لنظامه لأنه اعطاها كل ما تريد استراتيجيا، ولأن من حوله من المستفيدين والمستغلين واصحاب الهوى زينوا له انه الرجل القوي والذي لا خوف عليه وعلى تونس، وان الثورة والحراك الجماهيري بعيدا هنالك وفي مناطق اخرى وان عهد الثورات انتهى مع الثورة الايرانية، عام 1979م، وان السلام يرفرف الآن فوق ربوع الوطن العربي، بعد السلام المصري الاسرائيلي عام 1979م، اذن فلا حرب ولا ثورات بل هنالك سلام.. 8 . ولكن نفس امريكا التي ساعدت نظام (بن علي) وامدته بوسائل السيطرة والقمع وكل امكانيات التصفيح، تطالب النظام بالنجاح والاستقرار، وتريد من النظام ان يكون قمعيا ومحبوبا في نفس الوقت ، وهذه بالطبع معادلة صعبة وتبدو مستحيلة في نظام تسلطي فيه الكثير من التجاوزات الامنية والاجتماعية والانسانية.. ووضح من وثائق (ويكيليكس) ان هنالك آلاف الرسائل كانت تخرج من السفارة الامريكيةبتونس تجاه واشنطن، تحكي عن قصص الفساد والمحسوبية وانعدام الحريات وحقوق الانسان وقمع وترويع المواطنين، وان التونسيين يشعرون بالاحباط في فقدان الحرية السياسية وبالغضب من فساد العائلة الاولى (الحاكمة) ، مع ارتفاع في حظوظ التنمية بين الجهات وطنية او دولية . وفي المقابل تسعى السلطة التونسية باستمرار لفرض سيطرة اكبر على الفضاءات، وتعتمد في ذلك في معظم الحالات على الوسائل البوليسية، ونتيجة لذلك فإن الدولة التونسية اصبحت تشكو من مشاكل عميقة وخطيرة وكذلك الحال للعلاقة التونسيةالامريكية. وتمضي الرسائل وتقول: ان تونس ما زالت تحم منذ اكثر من 23 عاما من قبل نفس الرئيس وليس هناك من يخلفه في الافق، وان نظامه فقد التواصل والاحساس بنبض الشارع، واصبح النظام يعتمد على البوليس في تعاظم من اجل التشبث بالسلطة وبسط سيطرة اكبر، كما ان الفساد في الدائرة الضيقة للحكم اصبح في اتساع مستمر، وان الشكاوى والتذمر اصبح في تزايد مستمر، وان التونسيين يكرهون السيدة الاولى (ليلى الطرابلسي) وعائلتها.. وبل وحتى اولئك القريبين من الحكومة يعبرون عن الاحباط الذي يشعرون به من سلوكياتها، وفي نفس الوقت ان الغضب في كل شرائح المجتمع يتسع باستمرار.. وتمضي رئاسل السفير الامريكي المحذرة وتقول: علينا نحن الامريكيين مضاعفة الجهد من اجل اقناع شركائنا الاوربيين الذين نشترك معهم في القناعات في تكثيف مجهوداتهم لاقناع الحكومة التونسية بتسريع الاصلاح السياسي المنشود، لكننا في الوقت الذي نجد فيه ان بعض البلدان الاوربية مثل (بريطانيا والمانيا) متفقين معنا، نجد بعض الدول الاساسية مثل (فرنسا وايطاليا) تستحيان من ممارسة ضغوط على الحكومة التونسية، بالتالي علينا ان نعمل من اجل دفعهم للقيام بذلك وان تتم مقايضة الدعم من اجل الحصول على (مرتبة الشريك المتقدم) بالتزام النظام التونسي بتحقيق الديمقراطية واحترام حقوق الانسان مع تحقيق اهداف امريكية اخرى..! خبير وباحث في الشؤون العسكرية والسياسية