أثناء تغطية قناة الجزيرة لما يحدث وحدث في الشقيقة مصر عرضت القناة تاريخاً للتحركات الشعبية منذ بداية ثورة يوليو في عام 1952. وقد جاء ذكر القناة على احداث يناير (17/16)1977 وذكرت بأن من أسباب تلك الانتفاضة هو ان الحكومة المصرية ألغت الدعم على بعض السلع ورفعت اسعار سلع استهلاكية هامة مما أدى إلى ما سمى في ذلك الوقت بحريق القاهرة والذي اتلفت فيه وسائل النقل وقامت مظاهرة كاسحة أدت إلى نزول الجيش إلى الشارع لتهدئة الاحوال في البلاد. ولكن الذي سرد هذه الانتفاضة لم يشرح للمتفرج لماذا حدثت تلك الزيادات ورفع الدعم وافترض انه كانت بها الحكومة وهذا كان صحيحاً، ولكن من كان وراء التوصية بهذه السياسات؟ هذا ما أود أن اشرحه من خلال عملي مع الراحل الكريم مأمون بحيري رحمة الله عليه عندما كان يشغل منصب وزير المالية والاقتصاد الوطني في الفترة 1975-1977. أذكر أن مأمون بحيري كان في زيارة لمصر في الاسبوع الثاني من يناير 1977 - وعاد منها في حوالي 15/14 يناير 1977.. وحدثني بما يلي: قال لي انه تقابل مع الراحل د. عبد المنعم القيسوني وهو من اقتصاديي مصر المعروفين وكان وقتها وزيراً للاقتصاد. كانت المقابلة في فندق المريديان بالقاهرة.. أثناء الحديث سأل د. عبد المنعم القيسوني الراحل بحيري عن تجاربه مع صندوق النقد الدولي في السودان. فما كان من الراحل مأمون إلا أن قال له ان ناس صندوق النقد الدولي سيضعون لكم حوالي 12-13 اجراءً اقتصادياً، وانكم لو تجرأتم ونفذتم أربعة أو خمسة منها فان نظام السادات لن يستمر، وسوف تنقلب عليكم الدنيا.. ثم أردف قائلاً لي: طبعاً «ود الريف ده» اشارة إلى د. القيسوني ظاهر لن يعير حديثي هذا أي اهتمام كعادة الاخوة المصريين الذين ينظرون إلى ما يقوله رصفاؤهم السودانيون بصورة دونية.. ثم أردف قائلاً لي إنه يخشى أن يقوم بتنفيذ ما أوصى به الصندوق.. وبعد يومين أو ثلاثة سمعنا بإعلان تلك الزيادات والغاء الدعم والانتفاضة التي عرفت بانتفاضة يناير 1977. أي ان الأسباب الرئيسية لانتفاضة يناير 1977 هي ما أوصى به الصندوق للادارة المصرية في ذلك الوقت.. وقام بتطبيقها وزير الاقتصاد د. عبد المنعم القيسوني. هذا ولا بد من ان نوضح ان صندوق النقد الدولي وهو الحارس القوي الامين على نشر وتطبيق الفلسفة الرأسمالية وثقافة السوق على الدول الاعضاء في الصندوق منذ انشائه في عام 1945، إلا انه لا يفرض شروطه على القائمين على ادارة الاقتصاد في الدولة العضو.. ولكن ما يؤدي إلى قبولها بواسطة المسؤولين عن ادارة الاقتصاد القومي هو لجوء تلك الدول الاعضاء لا يحدث إلا بعد أن تكون خزائنهم قد خويت من أي دولار. عليه يجدون انه لا مفر من اجراء تلك التوصيات وتكون النتيجة انتفاضة الشارع ذلك لأن سياسات الصندوق التي يطرحها يقع اثرها الكبير على الفئات الضعيفة وذوي الدخول المحدودة.. لذلك يصف الاقتصادي الفلسطيني يوسف صايغ رحمة الله عليه العاملين في الصندوق بانهم اقتصاديون تقنيون (Technical Economists) وليسوا اقتصاديين اجتماعيين (Social Economists) أي يهتمون بالنواحي الاجتماعية في التنمية. وهذا هو نهج الصندوق الذي لا يعرف الطريق إلى الناحية الاجتماعية. ويبدو أن بعثة للصندوق كانت في القاهرة قبل هذه الاحداث الحالية، لأنني لاحظت في أوائل أيام هذه الانتفاضة، وفي الشريط الاخباري للبي بي سي نجد ان صندوق النقد الدولي أوصى مصر برفع الدعم عن المحروقات.. ثم في اشارة أخرى انه من المتوقع أن يرتفع التضخم في مصر!! طبعاً لا بد من أن يحدث ارتفاع في الأسعار اذا ما تم رفع الدعم عن المحروقات.. ولكن يبدو ان هذه التوعية لم تجد طريقها إلى التنفيذ بسبب اندلاع هذه الانتفاضة الاخيرة. وبعد أيام من هذه الانتفاضة القوية وبالتحديد في يومها السابع والثامن جاء في الاخبار ان صندوق النقد الدولي ابدى استعداده للمساهمة في اصلاح حال الاقتصاد المصري، ناسياً أو تناسياً ان ما أوصى به الصندوق من سياسات في يناير 1977 والتي كانت ينفذها وزارة الاقتصاد كانت السبب المباشر في انتفاضة الشعب المصري في يناير 1977. ولا أدري ما سيفعل صندوق النقد الدولي مع وزير المالية الجديد د. سمير رضوان والذي كان يعمل للدكتوراة في جامعة اكسفورد عندما كان مركز الاحصاء والاقتصاد في جامعة اكسفورد أكبر منتقد لسياسات الصندوق في دول امريكا اللاتينية! صرح د. سمير في أول تصريح له بأن وزارته سوف تعمل على اعادة الدعم للسلع الاساسية التي تهم مجموعة الشعب المصري. وهذا أمر لا يقبله الصندوق لأنه لا يقبل أي تدخل من قبل الدولة.. وان كان للادارة المصرية تحسين حال الشعب فلا بد من سياسات تدخلية (تماماً كما فعل الرئيس اوباما أثناء الازمة المالية العالمية!) لتصلح حال الضعفاء والمعدمين من أبناء مصر.. وفي نفس الاطار وفي اثناء انتفاضة الشعب التونسي جاء في الاخبار ان الصندوق نفى صلته في أن يكون قد أوصى بأية سياسات كانت سبباً في تلك الانتفاضة في تونس.. وفي السودان كانت هناك عدة مرات استطاع فيها الصندوق من تنفيذ ما يراه الانسب للاقتصاد دون اعتبار للاوضاع الهيكلية للاقتصاد السوداني فيما حالتين الاولى سياسات التحرير الاقتصادي التي طبقها الأخ عبد الرحيم حمدي عندما جاء وزيراً للمالية والاقتصاد والتي وضعت ونفذت دون الرجوع إلى صندوق النقد الدولي لأن علاقة السودان بالصندوق في ذلك الوقت لم تكن بالجيدة. والمرة الثانية هي الاجراءات الاخيرة التي طبقت نتيجة لتوصيات عدد من اللجان الفنية السودانية بدون الرجوع إلى الصندوق.. وسوف نلقي المزيد من الضوء على هذه السياسات ولماذا لم تكن مقبولة للعديد من دول العالم الثالث.. حاشية: عندما شاهدت ما حدث في تونس وما يحدث في مصر وكذلك اليمن والأردن.. جاء في خاطري بيت شعر لأستاذي الجليل محمد محمد علي رحمة الله عليه.. ولا أدري لماذا.. يقول البيت: «أين المفر.. أين المفر من قبضة البحر وفي كل موجة منه قبر!!» والله ابداً من وراء القصد