* القلم يصيبه الحران.. فهو اداة تتحكم فيها الحالة النفسية التي تخلق مزاج الكتابة.. والحالة النفسية هذه الايام تمر بظروف غريبة وعجيبة.. الحالة النفسية لكل الناس وفي كل العالم.. الناس الذين يتعاطون الكتابة والناس الذين يعملون في وسائط الاعلام المختلفة. * منذ أن قرر شعب تونس الخضراء ان يجعل ما قاله شاعرهم وهو في عز الشباب.. اذا الشعب يوما اراد الحياة فلابد ان يستجيب القدر ولابد لليل ان ينجلي ولابد للقيد ان ينكسر.. جعلوا ما قاله الشابي تميمة صعدوا بها ولم يهابوا صعود الجبال حتى لا يعيشوا ابد الدهر بين الحفر.. منذ هبة التوانسة وغضبة شباب مصر.. الاقلام تكتب وتتابع ما دار وما يدور في الاردن.. واليمن والسودان.. والفضائيات عن آخرها تتحدث وتلهث محاولة متابعة ما يجي بفعل الشباب والامة التي يتحرك شبابها نحو التغيير.. امة تتجدد وتنفض عنها غبار الانظمة القاعدة والمستبدة والقاهرة لارادة التغيير.. * ظللت أحاول السيطرة على حران قلمي والتحكم في مزاج الكتابة عندي.. مرة احقق نصرا سريعا ومرات انفق الساعات من الوقت حتى اقنع القلم بملامسة الورق.. * آخرها وانا اتابع الحديث عن ما تتعرض له الآثار في مصر الشقيقة وانتابني احساس بالفخر وانا اتابع دور الشباب الثائر وهم يشكلون جدارا لحماية المتحف القومي.. بل ويستطيعون القبض على من افتقدوا الوطنية والثورية معا وحاولوا الاعتداء على هذا الكنز بالسرقة. * وقفت بفخر واستدعيت علاقتي الايجابية مع التاريخ.. وبعدها اسلمت نفسي لتداعيات متلاحقة.. اذكر عندما زرت القاهرة لأول مرة وكنت مع جدي لأمي والذي كان مقيما (بالعجوزة) بحكم عمله في الجيش المصري.. عندما زرت معه الاهرامات والقلعة والمتحف القومي انتابتني احاسيس غريبة عجزت أن اسميها.. * وعندما وصلت البيت أخبرت جدي بأنني احس بأن كثيرا من هذه الاماكن والاشياء رأيتها من قبل فضحك.. وضحك من في البيت وضحكت.. أنا ومرت المسألة. * عندما عدت للسودان ورويت لأبي احساسي.. قال لي انك تقرأين التاريخ بتعمق وهذا شيء طبيعي في ان تجدي الاهرامات والقلعة والقناطر الخيرية وغيرها من الاماكن كما اختزنتها في ذاكرتك. * وبعدها زرت الكثير من مدن وعواصم العالم المختلفة اوروبا شرقها وغربها.. آسيا وافريقيا وكان يعاودني ذلك الاحساس بصور خفية ومتفاوتة.. الا ذات مرة عام 1975م في مدينة الاقصر.. معبد الكرنك.. بهو الاعمدة.. البحيرة المقدسة وادي الملوك.. نڤرتيتي.. اخناتون.. اسماء تعرف اماكن.. وتعرف اشخاصا.. لكنها اماكن لا كل الاماكن واشخاص لا كل الاشخاص. * عندما رجعت من زيارة معبد الكرنك في تلك الأمسية لم استطع التخلص من رنة الصوت وسحر الضوء الذي أحسست انه أتى مجسداً من خلف الزمن.. أتى قبل أربعة آلاف من السنين يوم كان المعبد في طيبة، ويوم كان الآلهة يسكنون المعبد ويديرون الكون كله من خلال الرحلة ما بين المشرق والمغرب من طيبة الى وادي الملوك. * الشرق بكل حيويته وحركته، واخناتون بثورته من اجل الحب والجمال، ونڤرتيتي تشد من أزره وتوت عنخ آمون يعارض دعوات التجديد محاولاً اعادة الهيبة للأسرة المالكة. * في تلك الأمسية كعادتي استرسلت كثيرا في التأمل والتفكير، وناقشت مسائل العصر بمقومات الماضي.. كنت قد بدأت التأمل اثناء التجوال في مدخل المعبد.. معبد الكرنك بمدينة الاقصر.. المدخل الذي تحرسه في يقظة تامة مجموعتان من الكباش. * عندما توسطت بهو الاعمدة أحسست بعظمة الفن أكثر من رهبة التاريخ، وكانت بداية لحظة الانتصار على اجترار المعلومات والوقوف عندها بالشكل الذاتي، فقد نفذت الى قلب المسألة الكبيرة مسألة التراث الفني والابداعي.. * مددت يدي لمفتاح النور بالغرفة.. كان آخر ما وقع عليه نظري صورة لتمثال نڤرتيتي.. وتدثرت بقناعتي في أن كل الذي دار بذهني لم يكن الا وليدا شرعيا للحظات مشعة أمضاها مبدعو ذلك الزمان.. حملوها كل ما اكتنف حياتهم، وجعلوا حبل الحياة متصلا.. الفن هو خلود الأمكنة.. هو سر العلاقة مع الناس والأشياء. هذا مع تحياتي وشكري..