استلف مني احد الابناء مجموعة من كتب ودواوين وعندما ارجعها لي اخذت اقلبها من جديد فقد طال عهدي بها.. وقفت عند يوميات مدينة كان اسمها بيروت.. من غير ان اعمد الى ذلك.. تحولت كلمة بيروت في عيني الى كلمة ( الخرطوم) ورحت اقرأ. (انا بيروت اعترف لكم كما لا تعترف النساء.. بأنه ليس في حياتي حب حقيقي.. ولا رجل حقيقي.. كل علاقاتي كانت هوائية وهشه وسريعة العطب.. وكل الرجال الذين عرفتهم كانوا خيولاً اراهن عليها ولا اختار منها سوى الحصان الرابح. جميع من عرفتهم كانوا من رجال الاعمال ومديري المصارف وأعضاء مجالس الادارات في الشركات الكبرى وهؤلاء كانوا يسافرون كثيراً ولهذا كنت مرتاحة معهم كثيراً.. ولم يكن لدي الوقت لاقيم علاقات طويلة ورومانسية مع احد فأنا امرأة المرافيء.. المرافيء بطبيعتها لا تؤمن بالعلاقات الثابتة وإنما تودع سفينة وتستقبل سفينة ولا يعنيها ابداً ان تحتفظ بدفتر مذكرات). ادركت ما قصده نزار قباني من جعله بيروت امرأة مرافيء لا تحتفظ بدفتر مذكرات ولا تعرف العواطف الصادقة ولا الاستقرار.. وعرفت وجه الشبه بين بيروتالمدينةوبيروت المرأة التي وجدت نفسها منذ عام 5791 وحيدة جميع البواخر والسفن رحلت وجميع الخيول شاخت وهرمت. هذه حالة لمدينة تشبه نوعاً معيناً من النساء ( ايا ترى هل الخرطوم من هذه النوعية.. المدينة المحطة).. تساؤل مفزع لمت عليه نفسي كثيراً.. لكن الخرطوم وحيدة وحزينة ولم تكن امرأة مرافيء كما اعترفت بيروت اعتذرت للمدينة التي هجرها ابناؤها وتركوا شوارعها لطفح المجاري وطرقاتها للكلاب الضالة.. اعتذرت للخرطوم واستدعيت صوراً وخواطر كثيرة في ذهني شكلت عندي محطات مريحة.. وقفت عندها كثيراً.. حول علاقات الناس بالامكنة والمدن. زرت كثيراً من مدن وعواصم العالم المختلفة.. اوروبا شرقها وغربها.. اسيا.. افريقيا.. ودائماً تنتابني احاسيس غريبة اعجز عن وصفها وتسميتها.. إلا ذات مرة 5791 في مدينة الاقصر عند معبد الكرنك.. بهو الاعمدة البحيرة المقدسة.. وادي الملوك.. نفرتيتي.. اخناتون. أسماء تعرف امكن وتعرف اشخاص.. لكنها اماكن لا ككل واشخاص لا ككل الاشخاص.. عندما رجعت من زيارة معبد الكرنك في تلك الامسية لم استطع التخلص من رنة الصوت وسحر الضوء الذي احسست انه اتى مجسداً من خلف الزمن. الشرق بكل حيويته وحركته.. اخناتون بثورته من اجل الحب والجمال.. ونفرتيتي تشد من ازره.. وتوت عنخ امون يعارض دعوات التجدد والتوحيد. وفي تلك الامسية استرسلت في التأمل والتفكير واسترجعت لحظة توسط فيها بهو الاعمدة.. تلك اللحظة التي احسست فيها برهبة الفن اكثر من رهبة التاريخ وكانت بداية الانتصار على اجترار المعلومات والوقوف بشكل ذاتي.. فقد نفذت الى قلب المسألة الكبيرة.. مسألة التراث الفني والابداع. ومددت يدي لمفتاح النور بالغرفة.. كان اخر ما وقع عليه نظري صورة لتمثال نفرتيتي وتدثرت بقناعتي في ان ذلك الاحساس الغريب لم يكن إلا وليداً شرعياً للحظات مشعة حملوها أهل تلك الامكنة ابداعاتهم وجعلوا حبل الحياة متصلاً. الفن هو خلود الامكنة.. هو سر العلاقة مع الناس ومع الاشياء ومن هنا تأتي العلاقات متميزة ومتفاوتة مع الخرطوم.. مع ام درمان.. مع القاهرة.. مع روما.. مع لندن. الا ترون انه ليس هناك وجه شبه بين النساء والمدن؟ المدن طبيعة جغرافية من عند الله وبُعد حضاري وفني وإبداعي وعمراني من عند الانسان الفنان. بهذه المناسبة ومناسبة اخرى هى الشعار الذي رفعته وزارة الثقافة (الثقافة تقود الحياة) لماذا ازيلت الكثير من التماثيل في سنوات الانقاذ الاولى من شوارع الخرطوموام درمان؟.. ازالها طالبان الخرطوم قبل طالبان افغانستان.. عفواً لهذه الخواطر المجنونة فحصار الهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي اصبح خانقا.. خانقاً.. عفواً وقلبي على بلدي. هذا مع تحياتي وشكري