يرى البعض أن حوارا يتم في اطار الدعوة لتشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة، هو أمر غير مجدٍ لأن الأحزاب ضعيفة، وأنه ليس على المواطن أن يتوقع الكثير خاصة في ظل ازدراء المؤتمر الوطني للآخرين.. ومع ذلك فإن أحداث تونس ومصر حركت الساحة السياسية إلى حد ما، وزادت من قناعة قادة المؤتمر الوطني بأن الانكفاء على الذات ونبذ الآخرين ليس من شيم هذه المرحلة ولا من حقائقها، وأقرَّت وزيرة الدولة للإعلام أن عدم الانفتاح على القوى الأخرى قد يقود إلى أوضاع مشابهة لما حدث في الشمال الأفريقي. لكن في ما يتعلق بالقول إن الأحزاب ضعيفة، فليست الأحزاب وحدها هي الضعيفة بل كل منظمات المجتمع المدني تعاني الضعف بسبب القبضة الحكومية على كل الشؤون، بحيث أصبح صوت المؤتمر الوطني وحده هو المسموع، وبات يتعين على من يود سماع الآخرين، أن يجوب العاصمة المثلثة بحثاً عن ندوة هنا أو هناك لسماع أصوات أخرى.. حتى أن هناك برامج حوارية تلفزيونية سياسية حيوية اختفت فجأة ودون مقدمات، وكان يؤمل أن تسهم في الانفتاح المنشود.. وبدلا من أن يسعى الحزب الحاكم إلى تشجيع نمو وتطور الأحزاب، فإنه يبذل جهدا متواصلا لانهاكها، وقد نجح في ذلك في الكثير من الأحيان.. كما أن الصحف، وهي أهم الأدوات التي يمكن من خلالها تبادل الرأي وايصال وجهات النظر، تعاني أيضاً ضعفاً آخر، ومع التسليم بتدني المقومات الأساسية لقيام صحافة فاعلة يمكن أن تستبين معها وجهات النظر، أو تقود جهداً مهنياً صادقاً لكشف مواقع الفساد وإظهار الحقائق المتعلقة به، أو تسهم بجد في التمهيد لساحة معافاة سياسياً.. فإن الصحف تمس كل هذه الجوانب حسب قدراتها الضعيفة، ولكن وكما قال كاتب عربي يصف مصر مبارك «كان للصحافة حق النقد وللحكومة حق التطنيش»، غير أن تجاهل الحكومة للنقد يترك ما تقوله الصحف يترسب في العقل الشعبي الجمعي، وقد يؤدي إلى احتقان كبير. ويبقى التقدم نحو توسيع المواعين السياسية وضخ الفاعلية فيها أمراً لا مناص منه، وإلا فإن الجمود لا يفيد في كل الأحوال، وسيؤدي فقط إلى تراكم المصاعب وربما انفجارها في وقت لاحق، ولسنا بعيدين عما يحدث حولنا من أنظمة جثمت على شعوبها ردحاً من الزمان حتى باتت هي الآمر الناهي، وأغفلت إرادة الشعوب وتوقها الشديد إلى الحرية والمشاركة، وباتت لا ترى إلا بعينها ولا تفهم إلا بعقلها القاصر.. فعقل الدول هو عقل جماعي يستلهم الأفكار من مجموع مكونات المجتمع، لكنه يستحيل إلى عقل ذي نظرة أحادية عندما ينغلق على داخله. وننظر بأكبار إلى هذه العدوى الحميدة التي تنتشر في المنطقة.. فمن يرفض أريج الحرية؟.. بل نرى أن الفرصة متاحة لتحريك الساحة السياسية بما يفيد الوطن، وبما يضخ في أفراده وجماعاته الحيوية السياسية نحو وضع إيجابي يشارك فيه الجميع.. فقد مررنا بهزة عنيفة أطاحت ثلث الوطن، وينبغي أن تكون كافية لتنبيهنا إلى ما هو أفظع. ولا تستثني حالة الضعف التي تنتاب الجميع حتى المؤتمر الوطني، المحمي والمدعوم حكومياً، وقد أثبتت الأحداث في تونس ومصر أن الحزب الواحد هو صورة كبيرة دون مضمون، وأن مناصريه سرعان ما تفرقوا أيدي سبأ مع زحف الثوار ومظاهراتهم اليومية، وقد رأينا في تونس كيف تلاشى حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، وكان يدعي أن عضويته تضم ربع سكان تونس، أي مليون شخص، وذلك هو حال الحزب الوطني الذي كان حاكماً في مصر، إذ أنه مع تقدم ثورة الشباب تمت إقالة أمينه العام صفوت الشريف، في محاولة لامتصاص غضبة الشباب، ثم استقال سلفه طواعية، ولم يقبل الأديب جابر عصفور الذي أسندت اليه وزارة الثقافة المنصب الوزاري، وسرعان ما استقال منه نائيا بنفسه عن حكومة لا يزال معظم اعضائها من الحزب الوطني، الذي أصبح منبوذا بطريقة علانية، واستقال «25» من قياداته، وحالياً لا يوجد ذلك الحزب لا في تونس ولا في مصر. والمطلوب بالطبع حالة تسمح بالمشاركة الجمعية مع احترام متبادل يتيح قدراً من الثقة، فهذه الأحزاب الضعيفة في السودان هي التي حققت الاستقلال، وهي التي أدارات السودان في فترات متقطعة، واجتهدت في تحريك الوضع الاقتصادي وتصدير القطن والحبوب الزيتية والزيوت والصمغ، ووضعت جامعتنا الوحيدة يومها في صدارة جامعات المنطقة، بينما بتنا اليوم نستورد حتى زيت الطعام الذي تزخر بلادنا بامكانيات هائلة لانتاج مادته الخام. وبعض من هذه الأحزاب له عقيدة نضالية راسخة منذ أكثر من قرن من الزمان، وحري بحزب مثل حزب الأمة أن يسعى لاستعادة جذوة تلك الروح والتجربة السياسية الثرة، وأن يتذكر تاريخه مستشرفاً مستقبلاً واعداً، ونفس ذلك يُقال بشأن حزب اسماعيل الأزهري أبو الاستقلال، مع اتاحة الظروف المواتية لكل الأحزاب لإعادة تنظيم نفسها. ومع التسليم بإنجازات حكومة المؤتمر الوطني من الكهرباء والسدود إلى البترول وكثير غير ذلك، نخلص إلى القول إن التطور في أي بلد عملية تراكمية، وأنه من الخطأ النظر إليه على أنه من إنجاز جماعة أو حزب واحد، رغم الفرص الكبيرة المهدرة في ما يتصل بالقطاع الزراعي. لقد قدمت لنا العقود الأخيرة دروساً وطنية، ورغم مأساويتها فإنه ينبغي التمعن فيها، خاصة تلك التي تتعلق بالاحتكام إلى السلاح، بدلا من الحوار، لنيل المطالب، ولا تزال بعض من هذه الدروس حيَّةً على الهواء مباشرة، في دارفور وفي غيرها.