لم يكن انفصال الجنوب مفاجئاً منذ الوهلة الأولى لتوقيع اتفاقية السلام الشامل في التاسع من يناير 2005 بنيفاشا نظراً لأن أحد طرفي الاتفاقية كان يضم في عضويته 90% منهم انفصاليون - ونقصد بذلك الحركة الشعبية لتحرير السودان - وبرحيل الدكتور جون قرنق الذي كان يؤمن بامكان ايجاد سودان جديد بكيان واحد افتقدت الوحدة الجاذبة مهندسها البارع ومن ثم وجدت السياسات المتنافرة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية تربة خصبة للمشاكسات والمماطلات والمماحكات أخرجت كل أو جل مستحقات الاتفاقية من جداولها الزمنية المرصودة لها. ورغم أن اتفاقية السلام الشامل أعطت الوحدة الجاذبة الاولوية والأهمية إلا ان ممارسات شريكي الحكم دفعت بخيار الانفصال إلى نهاياته التي تعيشها البلاد الآن - بميلاد دولة جديدة تحمل الرقم 192 على خريطة العالم - تاركة «الأم» تعاني حمى النفاس، واعراضها:- أبيي، دارفور، جبال النوبة، جنوب النيل الأزرق، رسم الحدود، وكتابة دستور دائم، واصلاح الاوضاع الاقتصادية المهزوزة. وكل هذه «الاعراض» تحتاج لمعالجات بقدر عال من المسؤولية قبل حلول التاسع من يوليو 2011 موعد نهاية العمل بالدستور الانتقالي. وفي تقديري الخاص ان حزب المؤتمر الوطني وبما عرف عنه تفننه في استهلاك الوقت لاكسبه، لن يستطيع انجاز حلول ناجعة لكل تلك المشاكل التي عجز عنها على مدى امتداد الست سنوات الماضية في الوقت المتبقي من نهاية الفترة الانتقالية - أي خلال الخمسة أشهر القادمة. وأرى انه وبانتهاء الفترة لانتقالية ستجد حكومة المؤتمر الوطني نفسها محاصرة بقضايا لا حصر لها كنتيجة سالبة لانفصال الجنوب تلقي بظلالها على الجزء المتبقي من السودان القديم. عليها أن تحسن مجابهتها بحكمة وحذر. وعليه فإن طرح فكرة الحكومة العريضة لا تجد هوى عند معظم احزاب المعارضة التي تعتبرها عبارة عن مجرد دخول في عباءة المؤتمر الوطني، فضلاً عن انها ستزيد من ترهل اجهزة الدولة فوق ما هي مترهلة الآن، وتلقي على الدولة اعباء مالية اضافية كمخصصات وامتيازات ....الخ وبالتالي زيادة انهاك الاقتصاد المتأزم وليس من الحكمة أن تقوم حكومة على ترضيات لانتاج وضع يكون تحصيل حاصل فقط لتقول نحن «مطينا» الحكومة حتى أصبحت عريضة. هذا ولا يغيب عن الأذهان ان المؤتمر الوطني، مارس هذه اللعبة في السابق تحت اسماء مختلفة ابتداء من احزاب التوالي المندمجة في الحكومة ابان حكومة الانقاذ الاولى مروراً بحكومة الوحدة الوطنية وانتهاء بالحكومة الانتقالية. وظلت الاحزاب المشاركة فيها «لا تهش ولا تنش» حتى يشعروا قواعدهم أنهم موجودون ضمن منظومة الحكومة السنية على الأقل. ولا شك أن المؤتمر الوطني استطاع بهذه اللعبة الوصول لمبتغاه وهو اختراق بعض الاحزاب المعارضة وشق صفوفها واضعافها وعليه وعملاً ب«لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» فان فكرة «حكومة عريضة» سوف لا تجد سوقاً في الشارع السياسي المعارض. ولا أظنها تعول عليها باخراج البلاد من أزماتها التي تتوسع حلقاتها يوماً بعد يوم إلى بر الأمان. لأن الفكرة في أساسها تنطلق من منظور الحزب الواحد صاحب الاغلبية البرلمانية، مما يجعل المشاركين فيها من الاحزاب الأخرى مجرد فراجة. ان النزعة الشمولية التي صاحبت حكومة المؤتمر الوطني منذ انقلاب 1989 تجعلها ذات حساسية شديدة حيال الرأي الآخر ويتجلى ذلك من خلال التصريحات الاعلامية لبعض النافذين حيث تستشف روح التعالي والتحدي والاستفزاز، بينما العمل الديمقراطي يتطلب بداهة مقارعة الحجة بالحجة، والرأي بالرأي، وفي النهاية البقاء للأصلح والأوفق. وفي رأي - أمام المؤتمر الوطني الآن فرصة ذهبية يستطيع من خلالها - اذا اغتنمها - لعب دوراً سياسياً بارزاً يشفع له ما لم تشفعه اتفاقية نيفاشا خاصة وان احزاب المعارضة تحمله كامل المسؤولية التاريخية في تقسيم البلاد. وهذا الدور في تقديري - هو انجاز ما لم تنجزه كل الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال بايجاد ضوابط متفق عليها تضع البلاد في المسار الصحيح المستديم، من موقعه الطليعي أخذاً بقصب السبق. ولعل الاستماع الجيد للشارع السياسي المعارض هو المدخل الرئيسي لتفهم مطالبه فالمعارضة الآن تطرح حكومة قومية انتقالية بمهام محددة هي عقد مؤتمر قومي جامع تعالج فيه جميع المشاكل المتأزمة وكتابة دستور دائم واجراء انتخابات. وبما ان السودان الآن يمر بظروف دقيقة وخطيرة تهدد وجوده - أرى - في هذه الحالة يجب التصدي لها حكومة ومعارضة بعيداً عن المصالح الحزبية والذاتية الضيقة وحيث انسب الآراء التي يمكن أن تجمع كل الطيف السياسي حكاماً ومعارضة هي في رأي - فكرة الحكومة القومية التي تسمح أيضاً اشراك كل الاطراف المؤثرة في الحراك الداخلي في جميع انحاء البلاد بما فيها الحركات المحاربة. لازالة كل العوائق والعقبات التي تعترض مسيرة البلاد منذ الاستقلال، مع الأخذ في الاعتبار معطيات تداعيات انفصال الجنوب وانعكاساتها على المتبقي من الدولة السودانية القديمة وتداركها باعادة النظر في كيفية حكم البلاد وادارتها عبر دستور دائم متفق عليه مع أخذ رأي الشعب فيه للاستفتاء. والحديث الذي يدور حول تعديل أو كتابة الدستور الحالي حسب منظور الحزب الحاكم باضافة أطراف تدور في فلكه - في رأي - سوف لا يعبر عن أشواق وتطلعات الآخر وتلبية مطالبه، وانما سيكون دستوراً فقط على مقاس السلطة الحاكمة كما هو الحال مع جميع الدساتير التي أبرمت وانتهت مع انتهاء حكوماتها وهذا ما نود أن يعيه المؤتمر الوطني قبل الاقدام على كتابة الدستور أو تعديله، لأنه سيبقى على الازمات المزمنة دون حل لتأخذ الاختلافات والانقسامات طريقها إلى كيان الدولة. وأحسب ان المؤتمر الوطني سوف لا يخسر شيئاً إذا تواضع وقبل بفكرة الحكومة القومية والمؤتمر الدستوري الجامع، المطروح حالياً وبالحاح على الساحة السياسية بل سيكتسب المميزات التالية:- أ/ صفة المبادرة الوطنية باثبات الثوابت المفقودة في الدساتير السابقة لأول مرة. ب/ انجاز تاريخي يحسب له كونه الحزب صاحب الانجاز الذي لم يسبقه عليه أحد في تاريخ السودان الحديث. ج/ سيظل مشاركاً فاعلاً لمجريات الأمور في الحكومة القومية. د/ زائداً ثقته في جماهيره، سيكسب مزيداً من المؤيدين له في أي وقت يخوض فيه الانتخابات، بفرص فوز أكبر. وبعد هذا فما الذي يدعو حزب المؤتمر الوطني ان يظل ممسكاً ب«مرفعين» السلطة لمدة أربع سنوات أخرى بأسلوب التخويف والترهيب لمخالفيه في الرأي، والتعلل بأحقية البقاء في السلطة بناء على نتائج الانتخابات - ابريل 2010 - واتكاء على دستور الفترة الانتقالية، الذي ينتهي أجله - لدواعي انفصال الجنوب - في التاسع من يوليو 2011. وبما ان الحكومة القائمة الآن هي ظل هذا الدستور، فانك لا ترى لحائط كان قائماً ثم انقض ظلاً. الكل يلهث الآن جرياً وراء كيف يحكم السودان - السؤال القديم الجديد - وعدم الاجابة عليه بوضوح متفق حوله في كل الدساتير السابقة هي سبب هذه المشاكل المتراكمة منذ استقلال البلاد في 1956 والتي قادت إلى انفصال الجنوب. وربما اذا لم يتدارك عقلاء وحكماء هذه الأمة بوضع حد للانفلات الدستوري - ان جاز هذا التعبير - ستأتي على الاخضر واليابس - لا قدر الله. ان النظام الذي يفكر بعقلية الدولة البوليسية الذي يفرغ موجهات الدستور الانتقالي من محتوى الحريات وحقوق الانسان بقانون وضع بعناية ليصادم تلك الحريات والحقوق الديمقراطية. وللدلالة على ما ذهبنا إليه هناك أمثلة كثيرة لكننا سنأخذها من آخرها كتفريق جموع الانصار المتجهة إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة بأم درمان. وفي نفس الوقت اتاحة الفرصة لجموع أخرى موالية للنظام للتعبير عن رأيها، ومنع اقامة ندوتين لحزب الأمة بسنار والدمازين (الصحافة21/1/2011) مع ان كل الخطوات التي اتبعها حزب الأمة كانت سلمية حسب ما تناقلته الابناء، مما نخشى معه والحال هكذا أن تسير الأمور إلى احتقان الشارع السياسي أكثر مما هو محتقن الآن. وفي هذه الظر،ف الدقيقة التي تمر بها البلاد سمعنا خطاباً للسيد/ رئيس الجمهورية بالجزيرة في الآونة الأخيرة، ان على الاحزاب أن تستعد للانتخابات بعد أربع سنوات، وعليه يحق لنا أن نتساءل وكيف الاستعداد إذا كان ما نسمعه يتم ترجمته عملياً لنقيضه بواسطة الشرطة والاجهزة الأمنية؟ ولماذا تمنع الحكومة الاحزاب المعارضة فقط، حتى اقامة ندوات في دورهم..؟ ولماذا تبطش الشرطة بالمسيرات والتظاهرات السلمية؟ ولماذا تضن عليهم الشرطة بالتصاريح المنظمة للمسيرات والندوات السلمية..؟ دعوا الاحزاب السياسية تمارس حقوقها الدستورية والتفتوا إلى أولئك الذين عاسوا في الأرض الفساد، من نهب قطعان الماشية لمواطنين آمنين، وحصد انتاج المزروعات، وتهريب عبر الحدود المواد التموينية - سكر، عيش، دقيق، وزيوت ...الخ - ليرتد إلى داخل البلاد - أسلحة بأنواعها وسيارات دفع رباعي - لتستقر في أيدي مليشيات وأفراد لا حصر لها تهدد أمن واستقرار المواطنين الآمنين. نظفوا البلاد من اللصوص وقطاع الطرق المتلاعبين بمقدراتنا الاقتصادية، ولتكن هي مهمة وواجب رجال الشرطة والأمن. ان التنادي لمؤتمر قومي جامع - سمه كما شئت - هو موضوع الساعة الملح وصمام الأمان من الأخطار المحدقة ببلادنا وضمان لأجيالنا القادمة ليمضوا في طريقهم نحو التقدم والنماء بثقة واطمئنان. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وأرزقنا اجتنابه. والله من وراء القصد..