نعم للأمم الإرادة وللشعوب القوى الحقيقية والشعب مصدر السلطات، كما تقول كل دساتير الدنيا إن كان حقيقة أو تسويفاً والتفافاً، ولكن الآن برز عامل قوي أحدث هِزة في تركيبة هيكل الدولة التقليدي وشكل الحكم ومستوى السلطات، بل امتدّ تأثيره حتى على نمط الأمم والشعوب ورعايا الأسر، ألا وهي ثورة «الاتصالات» التي تربّعت في عملية التعاطي مع السلطان والتدافع والدفاع في أخذ الحقوق الدستورية كأقوى سلاح وأقوى محرك، ولعل الإعلام الذي هو أحد فروع علم الاتصال والذي كان يُطلق عليه «السلطة الرابعة»، إعلام الصورة أو الصوت والصورة بمقدوره اقتلاع حكومة كاملة بكل سلطاتها الثلاث، فالسلطة الرابعة هذه القلادة الاحتفائية المراسمية التي يُقلّد بها الإعلام وخاصة الورقي في الغناء السياسي، تحركت هذه السلطة الرابعة من مربع «الكُنية» إلى درجة «السَّيَادة» وأصبحت السلطة الأولى والسلاح ذا الشفرتين لمن يُحسن استخدامه، والإعلام بشتى أقسامه الرسمية والجماهيرية والإقناعية يتحدى وزارة الدفاع اليوم. فالكاميرا تنقل وشوشة الشارع وأزيزه ونبض الشعوب الحي المباشر الذي هو مدد ومصدر استهلاك وسائل الاتصال، فتوقظ ثبات أمة بخلاياها النائمة والمستكينة لتسترد حق التعبير وتسحب جوازات الحكام وحق القرار. وأصبح لكل فرد في الشعوب الحرة مساحة منبر ورأي، وبمقدوره أن يُحلِّق به في الفضاء عبر الفضائيات والإنترنت والهوائيات، وليس بمقدور الرقيب التحكم فيه مهما حاول «السنسرة»، أناس كانوا مذعنين مسلوبي الإرادة والكرامة ذليلي القهر وذييلي الأذناب كانوا بالأمس القريب مقطعي الأوصال من الدنيا، تجثم على صدورهم أنظمة صخرية متخندقة تحميها العزلة والانغلاق، ولكن الشعب فاق وانعتق، فانكسر سجن سجان الأحرار وانفكت الأغلال، فسحب الشعب سلطاته كما شاهدنا ونَتَقَ جبلاً ووتداً أصم صلداً، والأهم من كل ذلك خبِر مداخل كيفية التغيير والمبادرة والمبادأة. ولذلك فاجأ «المستخدمين» «المصنعين والمخترعين» فتفاجأ مفجري ثورة الاتصال والمعلوماتية والإنترنت وهم الذين سوقوها لنا وصنعوها «تقانة» لغير غرض نبيل فتفاجأوا، وعلى رأسهم أجهزة المخابرات التي تحمي الأنظمة «الفاسدة» المشتركة مع مصالحها «الفاسدة» وعلى رأسهم المخابرات الأمريكية وجهاز الموساد الإسرائيلي وكل «مراصد» العالم بما حدث في تونس وفي مصر من تغيير، واليمن وسوريا والأردن والجزائر من إصلاح علنى وإصلاحات سرية في بقية الدول ومنطقة الشرق الأوسط، وبأي سلاح بسلاحي الشعب والاتصالات، فخشيت أعتى الدول على مصالحها وخافت دولة الاغتصاب الربيبة المحمية على تمزيق ميثاق سرقتها العلنية للإرادة والماء والأرض والوقود في ما عُرف بالملاحق السريّة لكامب ديفد، لأن الديمقراطية التي تأتي بالإسلام في الشرق الأوسط «محرّمة»! ثورة المعلوماتية والاتصالات الغيث السماوي الذي لا تقية منّه ولا حجاب وإنا لموسعون، أزالت كل الحواجز والحدود الجغرافية الطبيعية التقليدية والبشرية، لينقل لنا الإعلام ثورة مكشوفة تبدأ بعود ثقاب من شخص واحد ويطير الخبر كالنار في هشيم وجدان الأمم الحرة، فينفث فيها روح الثورة ويبعث مواتها الانكساري في كل العالم. رأينا في ثورة الشباب الشعبية في مصر، أن الإعلام لعب أخطر الأدوار، ففي أحيان نجده يروّج للشعارات ويعمل على تفعيلها وتثبيتها، وهو إن كان بقصد أو بغير قصد أصبح بذلك أداة من أدوات إضرام الشارع وبث المد الروحي الخلاَّق والفعَّال، ويُركز على مواقف بعينها عند المعارضة، ورأينا بعض القنوات تنشر تلفونات استغاثة لمن يُريد، تنقل نداءات الاستغاثة والعون، وتخبر عن هجوم «البلطجية»، وسريعاً تكشفت هويّة وحقيقة البلطجة «الرسمية»، والقنوات تناشد بأن حالات في مشفى ما تستدعي نقل «دم» وكأني بها قنوات خدمات طوارئ وإسعافات توصيل الشارع وبث الشعارات وترسيخها وتبادل الأدوار مع إدّعاء النبل أحياناً. فالكاميرا «الحرة» اليوم تعتبر واحدة من مؤثرات تغيير اتجاهات الرأي والتفاعل الجماهيري والاتصال الجماهيري التفاعلي، وكرة اللّهب تكبر بالتعليق وبالتركيز وبالحديث والهتاف عبر الفضائيات والاحتشاد، والصورة أهم معبّر، وهي الزاد الوحيد الجماهيري التحريضي المتكامل وليس سواه. بفضل ثورة الاتصالات والمعلوماتية أُجبر الرئيس المصري العابد «للكرسي» على تقديم تنازلات لم تكن ترد بخلد أحد في العالمين، وشُلّت حركة الدولة تماماً، والخسارة الاقتصادية ليست في البورصة المصرية أو في العملة المنحدرة والسوق، وإنما هي في شتى القطاعات وتوقف دولاب العمل في الدولة، وهنالك خسارة غير منظورة وغير محسوبة سوف تتكشف فيما بعد. «البوعزيزي» في تونس بدأ الشرارة، ولكن إعلام الصورة زادها «حطباّ»، والشباب بدأ التظاهرة في مصر، ولكن الفضائيات كانت هي المد البحري والشريك الأساسي في صنع التغيير، فليست هنالك فعالية لثورة بكماء لا صوت ولا صورة ولا تأثير، ولكن ثورة الاتصالات اليوم تزلزل الجبابرة وتجتاح «الحكومات العربية» وتفرض الأولويات وتصنع التغيير. فالدرس المستفاد قيل لنا إن السيادة منتقصة في عهد العولمة والمعلوماتية، ولكن هذا التمرين الحي المنقول على الهواء مباشرة، ليست السيادة فقط، فلا وجود بعد اليوم حتى للأنظمة القمعية البوليسية التي تُراهن على قوة الردع والقمع والقطع والفجيعة والمواجع، انتهى عصر فرض الوصايا والرأي والثقافة والدين، لأن الديمقراطية كنظام اجتماعي لم تعُد منحة تتفضل بها القوى السياسية المؤثرة، وإنما ثورة الاتصالات أعطتها للشعوب قبل أن تتفضل بها الحكومات، ومنذ وقتٍ بعيد تُمارس هذه الشعوب حقها في التعبير والتعليم والتنوير وحقها في من يحكمها وكيف. [email protected]