لاقت دعوة السيد رئيس الجمهورية لإنشاء مفوضية لمحاربة الفساد، ترحيباً واسعاً من مختلف قطاعات الشعب. فمجرد التفكير في قيام هذه المفوضية هو دليل قاطع على استشراء الفساد بكل أشكاله المالية والسلوكية، وصح من قال «لا يوجد دخان بلا نار». ونحن إذ نؤيد هذا المسعى الرئاسي يلزمنا أن نشير إلى أس هذا البلاء الذي نخر في الجهاز الحكومي حتى أوشك أن يفقد الناس الثقة في النظام برمته، ألا وهو غياب شرط الأمانة والقوة وجعل الولاء المعيار الوحيد لتولي الوظائف، خاصة في بعض المجالات المالية والحساسة. واقترن ذلك بانعدام الرقابة والشفافية والمحاسبة والجمع بين السلطات، حيث تجد المسؤول الأول في الحزب هو رئيس الجهاز التنفيذي، مع إضعاف أجهزة الخدمة المدنية حتى فقدت دورها تماماً. لقد تجلت مظاهر الفساد في إهدار المال العام والاختلاس والرشوة والمحسوبية والمحاباة واستغلال المناصب والعلاقات، حتى صار ذلك حديث الشارع والمجالس. وأوضح تقرير المراجع العام الأخير ما تعرض له المال العام من نهب «على عينك يا تاجر»، وصنفت منظمة الشفافية الدولية السودان باعتباره واحداً من أكثر الدول فساداً. ومن قضايا الفساد قضية سوق المواسير والمعاملات الفاسدة وقبض العمولات السخية. ولم يسلم الاستثمار من الفساد، إذ يطالب بعضهم بنصيب مفروض من المال ليحصل المستثمر على مطلبه. والفساد قد طال الولايات والقطاعات شبه الحكومية والمنظمات، حتى اختفت الشركات التي أنشئت لتطوير وتنمية الولايات، مثل شركة تنمية كردفان، دون سؤال عن موجوداتها وأصولها. ولكي نكافح هذه الظاهرة، يجب تكوين قاعدة بيانات مفصلة وشاملة، عن طريق تحقيق واسع النطاق تتولاه شخصيات مشهود لها بالنزاهة والكفاءة من الجهاز القضائي وديوان المراجع العام والخدمة المدنية، وتعمل بكل حيادية وبسلطات واسعة تطال كل الأجهزة والشخصيات، مع عدم أخذ الناس بالشبهات والابتعاد عن تصفية الحسابات، على أن تتوفر لها كل معينات العمل ووسائل الاتصال والنقل. إن من شأن هذه الهيئة الوصول إلى المسؤولين عن الفساد وتقديمهم إلى محاكمة عادلة وإعادة ما نُهب من أموال وتمليك الحقائق للشعب قبل أن تأتيه المعلومات من ويكليكس أو وسائل الإعلام الأجنبية. كما أن المطلوب إعطاء الأجهزة الرقابية والإعلام مزيداً من الحرية لتناول الموضوع بكل شفافية ومهنية وحياد تام. ونتمنى ألا تكون دعوة رئيس الجمهورية مجرد ردة فعل لما يدور في المنطقة العربية من حراك للتخلص من الظلم والفساد، بل دعوة مخلصة لتصحيح مسار الحكم في السودان وتنقية دولاب الدولة مما لحق به من ظواهر سالبة أضرت بالبلاد اقتصادياً وسياسياً عبر كل حقب الحكم الوطني، وإن كانت قد صارت أكثر بشاعةً في الوقت الراهن. ومن جانبها ينبغي على منظمات المجتمع المدني كافة الاضطلاع بدورها في هذا الصدد، تمشياً مع قول الرئيس المذكور أعلاه ببسط النصح والشورى وإنكار المنكر. الرياض [email protected]