ونحن نسعى لتكوين مجتمع ديمقراطي ينعم بالأمن و السلام والعدالة والانصاف ويتصف بالعفة و النزاهة ويتمتع بقدر معقول من الحياة الكريمة، لابد من سد كل منافذ هدر المال العام الذي يتم بالطرق الرسمية أي بالالتفاف حول القانون باستخدام بعض البنود الفضفاضة والثغرات فيه، وبالمخالفات الصريحة للقانون اي السرقة البينة في غياب الرقابة الدقيقة. والحقيقة لابد لي أن أحي الصحفيين الوطنيين الذين اعتبروا عملهم في الصحافة رسالة قومية قبل أن تكون مصدر رزق لهم، حيث أنهم لا يألون جهدا في مساعدة الدولة بكشف العديد من حالات هدر المال العام و الفساد والمفسدين عامة في الصحف السيارة، ولكن في الماضي القريب عرضوا أنفسهم للمساءلة القانونية وربما الاحتجاز و الاعتقال. ويعتبر هؤلاء الصحفيون في مجتمع ديمقراطي مستنير حماة ليس للشعب فقط بل للدولة برمتها أيضا. ولكنهم في مجتمع يقع تحت نير النظم الديكتاتورية و الشمولية يعتبرون أعداء للسلطة الحاكمة. والأمثلة كثيرة غير أنها لا تدخل مباشرة في إطار موضوع هذا المقال. وحقيقة شجعني لكتابة هذا المقال تصريح السيد رئيس الجمهورية بإنشاء مفوضية لمحاربة الفساد، وربما هاله الفساد الذي استشرى في السلطة التنفيذية العليا في مصر وكشفت عنه ثورة الشباب. ولقد كتبت حوالي ثلاثمائة صفحة عن الفساد في السودان في الفترة 2002-2010 في الصحف السيارة، والعديد منها يرتكز على تقارير المراجع العام في هذه الفترة. على كل هذا قرار في الطريق القويم، غير انه جاء متأخرا جدا. و لكن بالرغم من ذلك، يستحق منا كل اشادة ودعم ايجابي قولا وفعلا، وذلك بتقديم المقترحات والكشف الموضوعي لحالات الفساد القديمة والحديثة في سائر القطاعات الاقتصادية وغيرها. ولعله من الافضل أن تعنى المفوضية المقترحة بمحاربة هدر المال العام باعتباره أحد آليات الفساد والافساد. و يرجى أن يكون معيار التعيين في هذه المفوضية الموضوعية والتقوى وهي قمة الموضوعية والكفاءة والنزاهة والعفة والشفافية. ويفضل أن يتم تعيين من لا يخشى في الحق لومة لائم من غير الحزب الحاكم، لاسباب لا تخف على فطنة القاريء، وأن تتبع لرئاسة الجمهورية رأسا. فالفساد في حد ذاته قوة عاتية لايستهان بها خاصة في الدول الفقيرة. والفاسدون لهم منهجهم في الافساد لتمويه القضايا وعزل من يتصدى لمحاربة الفساد بحجج كثيرة. كما يستوجب تفعيل هذه المفوضية بوضع آليه ميسرة لكل من يود ان يتعاون معها من الشعب في كشف مواعين الفساد وهدر المال العام. والضمانة الاساسية لنجاحها هي تعزيز الديمقراطية وكسر حاجز الخوف. إن مهدارت المال العام الأساسية على مر المراحل السياسية، خاصة تحت نظم الديكتاتوريات العسكرية والنظم الشمولية تشمل: 1- التضخم الإداري في المؤسسات التنفيذية والتشريعية ومايتبع ذلك من رواتب عالية و مخصصات وبنود صرف أخرى غير مبررة بل مبالغ فيها. ومن اسباب هذه الظاهرة ما يسمى بالموازنات السياسية والترضيات القبلية والجهوية تأمينا لبقاء السلطة على دفة الحكم. وهذا نهج غير مبرر في مجتمع ديمقراطي يؤمن بالعدالة الإجتماعية وتداول الحكم. وبالطبع فإن استيعاب قيادات الحركات المسلحة التي تدعي النضال لتنمية مناطقهم و نهضة شعوبها والدفاع عن حقوقها ومستحقاتها في مؤسسة الرئاسة لا تشكل حلا مستداما للمشكلة. حيث أن الحل هو التنمية المتوازنة و المستدامة في كل الولايات التي تعاني من الصراعات المسلحة. وهنالك أمثلة كثيرة ماثلة للعيان. فهل يعقل أن تشكل حكومة دولة فقيرة مثل السودان من سبعة وسبعين شخصا؟. وهذا خطأ غير مبرر، غير أن الدولة قد وعدت بتخفيض الظل الإداري وما تبع ذلك من تضخم إداري وهو عين العقل. بقي ترجمة تصريحات الدولة إلى سياسات ملزمة. 2- التعدي على أموال الدولة في مختلف مؤسسات القطاع العام خاصة البنوك لضعف الرقابة وعدم إحكام المراجعة وعدم وجود قوانين رادعة تحد من هذه الظاهرة، وما استشراء الشيكات الطائرة إلا انعكاس لهذه الظاهرة. وقد أوضح تقرير المراجع العام للمجلس الوطني في عام 2010 أن التعدي على المال العام في الفترة بين سبتمبر 2009 وآخر أغسسطس 2010 بلغ 16.6 مليون جنيه سوداني مقارنة ب 5.1 مليون في ذات الفترة للعام السابق (2008- 2009). و الأمر الذي يدعو للعجب أنه ذكر أن بعض المؤسسات تتحاشى المراجعة و المراقبة مما يعكس وجود ثغرات في القوانين والتشريعات او هنالك بعض الجهات فوق القانون والمحاسبة!!، بالرغم من الإدعاء أنه لا يوجد شخص فوق القانون. 3- تسليف البنوك لبعض الجهات بدون ضمانات مناسبة للمبلغ المستلف، أو بضمان شخصياتهم فقط مما أدى لضياع الأموال العامة وشجع ظاهرة الاعتداء على المال العام والخاص. وحقيقة لم تتعد الجهات التي عجزت عن الدفع على المال العام وإنما المتعدي الحقيقي هو إدارة البنك التي مكنتها وسهلت لها مهمة الاعتداء على المال العام بعدم تطبيق القانون واللوائح التي تحمي أموال الدولة نظير الرشوة أو المحسوبية أو الجهوية أو القبلية. الحل يكمن في سد الثغرات في القوانين واللوائح المنظمة للتسليف. 4- ضعف القوانين والنظم واللوائح والاجراءآت في مجال المعاملات المالية والمحاسبية، حيث صرح وكيل نيابة المال العام مولانا هشام عثمان وجود صور للفساد المالي لاتوجد نصوص أو قوانين تجرمها، وان نيابته أعدت مقترحا لمشروع قانون خاص بمكافحة الفساد وسوء استخدام السلطة (الاهرام اليوم 9 ديسمبر 2010). الحل يكمن في مناقشة مقترح مولانا وأي مقترحات أخرى في هذا الإطار، وفصل السلطة القضائية من النيابة العامة. 5- استيراد سلع غير مطابقة لمواصفات الجودة أومنتهية الصلاحية أومسرطنة أو مخالفة للمعتقدات الدينية وفق لوائح الرقابة الجمركية والحجر الصحي لتطبيق وتحقيق ضبط الجودة مما يؤدي لحرقها وهدر عملات أجنبية هائلة البلاد في أمس الحاجة لها (الصحافة 10 ديسمبر 2010). على أجهزة الدولة المختصة بذل المزيد من الجهد في نشر ثقافة الجودة والمواصفات القياسية اللازمة للسلع التي تستورد من الخارج وذلك باستخدام كل أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية ونشر الكتيبات وتملكيها للتجار واصحاب الشركات وكل الجهات ذات الصلة. 6- انتشار ظاهرة الرشوة بغرض اجازة العطاءات التي تتطرحها الحكومة في كل القطاعات. علما بأنه قد تفشت ظاهرة الرشوة في العديد من الادارات العاملة مع الجمهور ليحصل المواطن على مستحقاته أوتسريع البت في طلباته المستحقة بحسب القانون أو تفادي المشاكل والمخالفات. وانتشار الرشوة يشكل أحد مؤشرات الفقر أو التخلف الحضاري أو كلاهما. فالمرتشي ليس بالضرورة فقيرا. 7- تحفيز بعض التنفيذيين من أموال الدولة عند تعيينهم وتحفيزهم مرة أخرى عند عزلهم وتحفيزهم مرة ثالثة عند تعيينهم مرة أخرى. بالطبع لا بد من تحفيز التنفيذيين، دون اسراف، شأنهم في ذلك شأن كل العاملين لجودة أدائهم ومبادراتهم وتنمية قطاعاتهم إذا طبقت السياسة على الكل بالتساوي و بدون النظر إلى جهة الإنتماء السياسي. ولامانع من تحفيز (ترضية) من عزلوا ظلما أو لأي سبب ما يقصد بها مصلحة العمل. 8- دفع ايجار أكثر من منزل لبعض التنفيذيين الذين يعملون في ولاية بينما تسكن أسرهم في ولاية أخرى. 9- سوء الإدارة عامة في بعض الوزارات المهنية التي اسندت قيادتها على مستوى وزير أو وكيل لغير المتخصصين في المجال ففي عصر العلم والتقانة لا تدار الوزارات بالفهلوة والشطارة!!. في هذه الحال يكون هدر المال نتيجة للجهل العلمي ببواطن الأمور. 10- دفع الحوافز غير المبررة والمبالغ فيها لبعض العاملين في الدولة لاداء أعمال تقع في إطار وصف وظائفهم وفي ساعات عملهم أو حوافز في الأعياد وسائر المناسبات، بالطبع لا مانع أن يعم الخير الجميع وبالقدر المعقول ولشريحة الفقراء الذين يرزحون تحت خط الفقر (148 جنيه حسب إدارة الإحصاء الرسمية). وتشكل هذه الشريحة 46% من السكان. 11- إعطاء المكافآت لمن لا يستحقها على اساس جهوي. 12- إساءة استخدام المال العام وتجنيب الموارد القومية والتقاعس في تحصيل الرسوم. 13- تطبيق بعض السياسات الخاطئة،. فمثلا تمليك عربات الدولة «بتراب» الفلوس لبعض كبار العاملين في القطاعات الحكومية وشبه الحكومية بحجة توفير ميزانية الوقود وصيانة العربات، مما أثر على أداء بعض الإدارات ولم يحقق الاهداف التي طبقت من أجلها، ومنح أموال الدولة لمن لا يستحق، كان الأجدر أن تباع بأسعار السوق وتمنح الأموال لمن يستحقها، لتخفيف حدة الفقرمثلا. 14- تشكيل وفود غير متخصصة للمشاركة في مؤتمرات أو اجتماعات متخصصة، فيصبحون «تمومة جرتق» في هذه المحافل الإقليمية والعالمية. وبعض هذه المهدرات تشكل سمة من السمات المميزة لمعظم الدول النامية وسببها الأساسي الفقر، وتعالج بالقضاء على الفقر أو تخفيف حدته ما أمكن، وبعضها سببه سوء منظومة وآليات الحكم وتعالج بالالتزام بقيم التقوى والعدالة والنزاهة والصدق والأمانة فضلا على تشريع وتطبيق القوانين وبالطرق الإدارية السليمة. واقترح أن تضمن معالجة مهدرات المال في استراتيجة كل الأحزاب القومية، فلو عالجتها الحكومة الحالية فخير وبركة وإلا تسعى أحزاب المعارضة لتقديم السياسات البديلة تحت ظل النظام الديمقراطي الذي يسعى الشعب السوداني لتعزيزه.