عقارب الساعة تشير الى الثالثة من ظهر امس عندما حطت الطائرة التي تقل السودانيين القادمين من الجماهيرية الليبية التي تلتهب هذه الايام ، ثلاث ساعات من الانتظار في مطار الخرطوم قضيناها بداخله نترقب وصول الطائرة التي كان من المفترض ان تصل عند الثامنة من صباح امس بعد ان تأجل موعد وصولها لاكثر من مرة بسبب سوء الاحوال الجوية المضطربة ، عند هبوط الطائرة في المدرج حينها سرت موجة من الصمت وسط الحضور الذي كان ينظر بلهفة صوب باب الطائرة ، فالأعين كلها اتجهت الى هناك دون ان يهتز جفن ، والاسئلة كانت تدور في خلد المتواجدين بما فيهم المسئولون هل هم بخير ؟ وماذا سيعكسون عن الواقع في ليبيا ؟ ، وعندما فتح الباب كانت اول القادمين امرأة تمسك بيدي طفلتيها الصغيرتين اللتين تبدو عليهما علامات التعب والاجهاد ، ثلاثة ايام مضت عليها هي ومن معها يجوبون الحدود املا في الوصول الى بلدهم ... ليطمئن قلبهم ويطردوا الهواجس التي ظلت تحيط بهم اثناء تواجدهم وسط الثورة الليبية الدامية ، كان القادم بعدها شابا كانت تبدو عليه الدهشة وتضارب المشاعر بين ما تركه خلفه هناك وبين عودته الى بلده سالما ، فقد كانت اثوابهم يغطيها الغبار العالق من طول الطريق فهم لايحملون معهم الابعض الوثائق التي تؤكد هويتهم السودانية بجانب الملابس التي يرتدونها لاغير ، ولاحظنا ان الطائرة بها امرأتان فقط والبقية كلهم من الرجال ، وبعد ان دخلوا جميعهم الى صالة المطار لم يكن بعضهم يقوى على الوقوف حيث اختاروا جانبا للجلوس بينما كان البعض الآخر يتأمل في مايحيط به وكأنهم لايصدقون انهم قد عادوا ..! «الصحافة « كانت وسط المستقبلين للعائدين من الجماهيرية الليبية فلم تكن هنالك اسر لتستقبل هؤلاء كغيرهم من القادمين من دول المهجر، فالوضع هنا يختلف والظروف التي قدموا فيها اتت بشكل مفاجئ فمعظمهم من الولايات ، عند دخولهم لاكمال اجراءتهم توجهنا صوبهم وتحدثنا الى مجموعة منهم اخبرونا بأن السودانيين يعانون من اوضاع معيشية صعبة ولكن لم يقتل منهم احد الى الآن ويعيشون في حالة رعب وعدم اطمئنان تام بحيث يتوقعون ان يهجم عليهم في أي وقت ، وذكروا لنا انه مامن احد اعتدى عليهم داخل منازلهم الا الذين يخرجون الى الشارع وقالوا ان حركتهم كانت محدودة لاتتعدى المحاولة لاحضار بعض مايسدون به رمقهم ، كان اول من تحدثت الينا هي مرافئ التي قالت اسمها مضيفة عليه عبارة لم تزد عليها حرفا واحدا «انا ماقادرة اتكلم يا اختي « احترمنا رغبتها في عدم الحديث فملامح وجهها توحي بتعب شديد يتملكها وكأنما تريد ممن حولها ان يتركوها وشأنها ،التمسنا لها العذر لما لاحظناه عليها من ارهاق وانتقلنا إلى المرأة الاخرى التي كانت معها ترافقها طول الطريق فهما كانتا الوحيدتين من العنصر النسائي حيث تجلس الى جانب طفلتيها بعد ان انزوت في ركن قصي، كأنما تريد الهرب من اعين الناس فقد ملت من توجيه الاسئلة لها لأنها لاتملك القدرة على الرد عليها ولاترغب في الحديث كثيرا ،وكانت طفلتاها تجلسان الي جانبها وقد اكتفين بالنظر الي والدتهن وهي تشرد بنظرها بعيدا ولكننا عرفنا انها من دارفور وتقيم في مدينة بنغازي . التفتنا الى سالم حمد عثمان من المقيمين في مدينة بنغازي الذي قال ان السودانيين في بنغازي لم يخرجوا من بيوتهم حتى لجلب الطعام ودعا الله ان يعيدهم الى السودان سالمين ولأن الاوضاع هناك سيئة وان الايام الاخيرة مرت عليهم وكأنها سنين طويلة،فالطريق كان طويلا لأنهم استقلوا المركبات التي استأجروها من ليبيا الى السلوم ومن بعدها الى اسوان ومنها الى الخرطوم . ويقول سعيد اسماعيل القادم من مدينة طبرق الليبية انهم لم يخرجوا منذ خمسة عشر يوما للعمل او لشراء اغراض تخصهم خوفا من ان يلحق بهم الاذى، وقال يراودنا احساس اننا مستهدفون ، فالمعاملة سيئة ومن الممكن ان يضرب الشخص ان خرج من منزله لأي سبب وبصفة عامة السودانيون بخير ولم يمت احد لانهم لزموا منازلهم ولم يتحركوا . وبصدق شديد تحدث الحاج عبد الباقي الدائر الذي كان يقيم في مدينة البيضاء قال ان الاجواء توحي بان الايام القادمات لن تمر بسلام وقد يتضرر السودانيون في ظل هذه الاجواء المشحونة بالغضب والدم وطالب السلطات بالاسراع في اجلاء السودانيين العالقين في ليبيا قبل ان يتأزم الوضع اكثر مما هو عليه الآن ويصبح الوصول اليهم امرا صعبا ويتشردوا بين المدن الليبية. وقال ان هناك الكثير من السودانيين مازالوا متواجدين داخل الجماهيرية الليبية وتتباين مواقفهم فمنهم من هو متردد في اتخاذ قرار العودة الى الوطن بسبب مصالحهم المادية المرتبطة ببقائهم في ليبيا خاصة الاسر ، ومضى في حديثه ان السودانيين هناك خائفون جدا ولاشئ يدعوهم للا طمئنان وقد توقفوا عن التجوال في انحاء الجماهيرية ، واضاف ان السودانيين لم يشاركوا في هذه الاحداث واكتفوا بمراقبة الاوضاع من داخل منازلهم دون ان يؤيدوا اويقفوا ضد الآخر. واخبرنا لطفي فيصل ان الاوضاع في طرابلس اهدأ من المناطق الاخرى ولكنه توقع الا تستمر هكذا وربما يصير العكس تماما خلال الايام القادمات لذا قدم الى السودان قبل ان يشتد عليه الخناق في مدينة طرابلس. وقال انه نصح بعض السودانيين بالمغادرة الى السودان بجانبه الا انهم مازالوا مترددين في اتخاذ القرار بالبقاء هناك او العودة ، وربما يرجحون البقاء الى جانب مصالحهم هناك . وقال آدم ابراهيم انه ترك كل مايملك خلفه (دكاكين ومحلات ) وهومستاء جدا من الوضع الحالي ولكن على أية حال فالاوضاع هناك لم تشجعه على البقاء ومواصلة مسيرته العملية، فقد اجبر على العودة بسبب الظروف هناك ولم يخترأن يعود ولكنه فضل العودة الى وطنه بدلا من ان يموت هناك ولايعرف له احد طريقا وسيتوجه الى منطقة كردفان بعد أن يرتاح من عناء السفر. واختتم حديثه بأنه لن يفكر في العودة مرة اخرى وسيحتسب مايملكه ان استمرت الاوضاع هكذا ، وعبروا عن شكرهم لاهتمام الاعلام بهم عن قرب ومتابعة قضاياهم بصورة لصيقة مع الجهات المسئولة التي التزمت باجلائهم من المناطق التي كانوا موجودين فيها . و بحسب الجهات المختصة ان توافد السودانيين العالقين في ليبيا سيستمر الى ان تنجلي الازمة ومن المتوقع تدفق هائل غير الاعداد التي وصلت الى مطار الخرطوم ظهر امس حوالي 486 فرد من العالقين بالجماهيرية الليبية ، وتوقعت السلطات وصول نحو 350 من العالقين اليوم و 4 آلاف من السودانيين خلال الاسبوع الحالي، 1000 منهم يصلون عبر ميناء حلفا، وفاق عدد المنتظرين داخل الجماهيرية الليبية 10 آلاف. وصف العائدون اوضاعهم بالمذرية والذين اجتازوا الحدود المصرية 4 آلاف كما ستتوجه 5 طائرات وباخرة لتفويج المزيد من العالقين الذين وصلوا الحدود المصرية .ان السفارة السودانية تحصي كل الاسر والطلاب الموجودين بغرض التوثيق ، وبحسب تنوير من السفارة السودانية في القاهرة بأنه سيصل نحو 1000 من السودانيين خلال الايام القادمة، وان اللجنة الفرعية قد اكملت كل الترتيبات اللازمة لاستقبال العائدين من ليبيا عبر منفذ حلفا من سكن واعاشة بعد ان تم اخلاء الفنادق والاستراحات بالتعاون مع الأجهزة الأمنية والجهات ذات الصلة .